محمد خير«مع ذلك لا يمكنني التوقف عن التفكير في الخلود/ في تعليق لبانة على حائط من النسيان/ كجندي باسل يعلق شارته/ أو حارس عقار/ لا يريد أن يزعجه المفتاح أثناء النوم». يبدو محيّراً أن رنا التونسي كلّما تقدمت في تجربتها، تحركت من العام نحو الخاص لا العكس: الوحدة والحب والمخاوف تتنازل عن عموميتها لترتدي أسماء الأشخاص المقربين والتجارب الخاصة. هنا في ديوانها الرابع «قبلات» (دار ميريت ـــــ القاهرة) لا نرى العالم الذي سعت إلى الخروج إليه إلّا بقدر ما يبين من نوافذ البيت: «مفتاح حياتي قذفت به من النافذة» تقول ليس لتبرير العزلة، بل للتدليل على أمل شاحب في أن «أترك كل شيء/ في سيارة تعبر مسرعة/ تجاه أمل لا أسيطر عليه». تتساءل في مكان آخر «هل تعرف أين يمكنني أن أصنع أجنحة؟». نقرأ فنجد أنفسنا إزاء عالم شبه طفولي على رغم الرغبات التي تلوّنه من حين إلى آخر. في عالم كهذا، يجب ألّا نتوقع تصويراً فاجعاً للخيبة، بل يكفي أن نعرف أنها «كلما أحببت مطعماً/ أغلق لأسباب صحية». ليس غريباً إذاً أن يكون لرغبة البداية من جديد السمت الطفولي نفسه «أختفي مثل بطلة/ بينما أزيز باب خيالي يصاحب مشيتي».
الألفة والرعب كذلك يمتزجان في صيغة تنتمي إلى لغة الحواديت «فمك المرسوم بقبلة سحرية/ في حجارة تبتسم من الخوف». كما أن «السنين الطويلة تفتح لك فمها تبتلعك مثل تمساح كبير». وهي الرغبة الطفولية نفسها في العثور على «حنين لا يلوح إلى البيت». ولو كان للبيت من ضرورة «لتركت زرعاً أخضر اللون يسلّم على العابرين من الشباك/ ينزل من على السلّم/ لصنعت لك مفتاحاً إضافياً ولتململت من نومك جواري/ لو كان لي بيت/ لتركت البيت كله لك/ المفتاح/ الجيران/ والكنبة / لشربت قهوتي على الرصيف/ قرأت الجريدة في الشارع».

الكتاب كله بحث عن حرية تنتظر من يمد يده إليها
كما نرى، فإن الشعر هنا ليس مستهدفاً في ذاته دائماً، بل تتحرك التونسي في سرد ذاتها حتى تصيب شحنة شعرية قد تجيء بسرعة، أو قد تتأخر، فالشاعرة تتحرك في نفسها كأنها تجلس «على قطار بضائع ممتلىء يهتز بي/ لا أعرف وجهته».
وقد يعطّل ذلك الشعر في مقاطع لكنه قد يفاجئنا بحضور قوي في مقاطع أخرى. بل إننا نجد الشعر في الجزء الأكثر نثريةً في الكتاب بعنوان «نثار/ صوت أمي»، ربما بأكثر مما نجده في جزء القصائد الحرة.
في «نثار»، نقرأ الشاعرة بضمير الجمع «نمشي في إحدى الحارات مترنّحين لا بهدف البقاء في القصيدة ولكن لأنّا رأينا أنفسنا في الهواء الذي يهب على تسريحة الشعر ولمسة اليد الرقيقة. مكثنا هناك، تركنا الخيول تهز رؤوسها معرفة في المكان، وحاولنا أن نمسك الضوء بالكاميرات الصغيرة».
نتعرف مع النص إلى المكان وإلى العجز عن التقاط الصورة لعازف الكمان. ليس عجز الصورة فقط بل عجز البصر «خائفة من أن تكون نظرتها التي بقيت هناك ظلت تجرحه».
أما الكتاب كله، فبحث عن حرية تنتظر من يمد يده إليها «أجلس في المكان المقابل لباب الطائرة/ شخص ما فتح الباب/ ونسي/ نسي تماماً أن يركلني».