مادة معرفيّة ونقديّة غنيّة توفّرها الباحثة العراقية في بحثها السوسيولوجي والأدبي والتاريخي. الكتاب ثمرة رحلة متمهّلة في أرجاء الذاكرة الثقافيّة لبلد عربي شهد حركة فكريّة وإبداعيّة خصبة، قبل أن يدخل زمن الردّات والانهيارات
نوال العلي
هل سبق أن أمسكت ثمرة بدت لك قاسية، وحين قضمتها سال منها ماء لذيذ وحلو؟ هذا ما سيحدث لك لدى قراءة كتاب الباحثة العراقية فاطمة المحسن. ضخامة الكتاب والعنوان يُضْبِعان في البداية. تعتقد أنك ستقرأ عملاً معقداً تعقيد التركيبة العراقية نفسها. لكنك بعد قراءة صفحات قليلة من «تمثلات النهضة في ثقافة العراق الحديث» (منشورات الجمل)، سيحدث تماماً مثلما حدث حين قضمت الثمرة.
كيف لا يكون كذلك، وقد جعلت المحسن من الكتابة حيّزاً لن يطردها منه سوى الموت؟ فأبلت في كتابتها وتخففت من عبء المكان بالأدب. ومارست حرية العقل في الاستنتاج والتحليق. الثقافة هنا ليست محدودة بمعناها الأدبي، بل بمعناها الوسيع لتضم «التكوين المديني والقيم الجديدة». وبذلك يقع الكتاب في شقين، تناول الأول مفهوم الارتقاء المديني. وبحث الثاني في صراع القيم القديمة للبقاء حيّة في القيم الحديثة. وتضرب المحسن مثالاً «المعركة التي خاضها المثقفون لتحرير المرأة، ولم تطل العمق الثقافي العراقي الذي أبقى القول الأدبي والفكري حكراً على الرجال». وتحاول الباحثة أن تقع على أسباب عدم تحول أفكار النهضة إلى واقع.
بحث الفصل الأول في المفاهيم وتمثلاتها، بدءاً بمفهوم النهضة وأسباب تبني المثقفين تعبير النهضة دون التعابير الأخرى. وترجّح الباحثة أن السبب قد يكون في البعد الميثولوجي الذي تحمله المفردة، من فكرة البعث والإحياء التي ترتبط بحركة الإصلاح الإسلامي أيضاً. وتلتفت المحسن إلى أن وصول المصطلحات إلى حاضنة عربية بعيدة عن مكان نشوئها، هو أحد أسباب الارتباك وفتور الحماسة في احتضانها. ثم تذهب في فصل عن المثقف العراقي إلى تتبع الحالة التي أنتجت مثقفين في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، في بلد «لا يشكل متعلموه إلا نسبة ضئيلة من السكان». وتبين الحالة السائدة آنذاك من احتكار التعليم والتثقيف على رجال الدين والفقهاء والعارفين باللغة. وقد كان على المثقف العصري أن يدخل في شراكة معهم، لأنّهم كانوا مسيطرين على الصحافة والمؤسسات الثقافية. ومن هنا تداخلت القيم العصرية والتقليدية لدى هذه الطبقة من المثقّفين.
تدرس المحسن مواصفات الحالة الثقافية من خلال أدب تلك الحقبة، فتستشهد بالروايات والقصص والشعر. وتضع بطانةً سياسية كخلفية للأجواء التي نمت أو انكسرت فيها البنى الثقافية في مراحل مختلفة. منذ العثمانيين فالاحتلال البريطاني فالعهد الملكي... وهي بذلك توفّر نسيجاً غنياً في كتاب سوسيولجي أدبي وتاريخي. وممن تطرقت إليهم من أشهر الشعراء والمفكرين الزهاوي المادي الذي دخل في معارك مع العقاد دارت حول النشور وعودة الروح، والرصافي صاحب قصيدة «حقيقتي السلبية» التي عُدَّت بمثابة بيان للحداثة الاجتماعية. وظهرت أدبيات الداروينية والنيوتنية والنيتشوية والماركسية التي أسهمت في «رفع سقف فهم المثقف العراقي لفكرة التغيير». وظهر كتاب الشبيبي «وضع اللغات وخضوعها للطبيعة» (1912) ليرفع «الحصانة لأول مرة عن لغة القرآن ويخضعها لقانون التطور». وهو بذلك يناهض فكر الأولوسي. على أي حال، كانت تلك بدايات فتحت الباب أمام المثقفين العراقيين لاستبدال الروحانيات بالعلم، وبدأت نزعة الشك تظهر في بعض النصوص الشعرية. وكالعادة، كان خطاب

قصيدة الرصافي جاءت بياناً للحداثة الاجتماعية

النهضة يهتم بالفقراء والنساء. وقد غدا هذان الطرفان مختبراً لأفكار المثقف عن النهضة. ومن أشد الماركسيين المدافعين عن حقوق هاتين الفئتين في تلك الفترة حسين الرحال ومحمود أحمد السيد.
أما غياب المرأة عن الأدب العراقي، فلا تردّه المحسن إلى انزوائها عن الحياة العامة فحسب، بل أيضاً إلى «المجتمع الذي كان يمارس الكثير من رجاله الحب مع المذكر لا المؤنث». وتضيف: «ما كان بوسع شعراء مثل الحبوبي أو الكرخي أو الرصافي الجهر بغزل المذكر، لو لم يكن هذا الحب من خصائص المجتمع العراقي». إذ يبين علي الوردي أن اللواط كان منتشراً بنسبة 40 في المئة من السكان في المرحلة العثمانية. وكان من الأمور المألوفة أن تجد الرجل ومعه غلامه في المقهى.
وتفرد المحسن حديثاً مطولاً عن الشعر. هناك الكثير من الظواهر التي ترافقت مع تطور الشعر العراقي مطلع القرن العشرين. من أهمها «طموح الشعراء في بلوغ مرتبة من التجديد الفني ارتبطت بالتحدي والرطح الجريء للأفكار». ها هو الرصافي يقول: «إذا كانت غاية الأدب أخلاقية كما يقولون، فماذا نصنع بالأهاجي والخمريات وغزل المذكر والمؤنث». في الواقع، كانت القصيدة العراقية قد تخلّت وقتذاك، بحسب المحسن، عن الترف العاطفي، لتركّز على الإصلاح والتنوير. في المقابل، ظهر الشعر المديني الذي تناول الملاهي والمسارح والقصيدة القصصية القريبة من الميلودراما.
وإن كانت المحسن تقول إنّ السنوات الطويلة التي أنفقتها في البحث وجمع المعلومات، قد علمتها كيفية التخلي عن الكثير، فإن ما جاء في هذا المقال ليس إلا قضمة صغيرة لا تكاد تمسك إلا خيطاً ناحلاً من كتاب تجاوز 400 صفحة، واكتنزت فصوله التسعة بمعلومات ومراجعات تحتاج إلى أكثر من وقفة لمقاربة حركة الأفكار عبر التاريخ العراقي الحديث، في منظور باحثة متمهّلة وناقدة متمكّنة مثل فاطمة المحسن.