نجل مدير مكتب الصحيفة في القدس هو مجنّد في الجيش الإسرائيلي. إلا أنّ إدارة الصحيفة لا تجد سبباً لتنحية إيثان برونر عن مهماته، هو الذي اشتهر بانحيازه الواضح للدولة العبرية
صباح أيوب
«إذا كانت نشاطات أحد أفراد عائلة الصحافي تولّد، ولو ظاهرياً، أي تضارب في المصالح مع عمله، فيجب إبلاغ ذلك للمحررين المسؤولين، وهم يقررون إما تحييده عن بعض المواضيع أو حتى إعادة تعيينه في قسم آخر»، هذا ما ينصّ عليه أحد بنود شرعة الأخلاق المهنية الخاصة التي تعتمدها «نيويورك تايمز» (ثالث أكبر صحيفة في الولايات المتحدة). يفسّر مدراء التحرير في الصحيفة بندهم هذا بالقول إنّ «الصحافي مهما كان صادقاً ومهنياً في عمله، قد يخضع لبعض الظروف الخاصة التي تؤثر في مصداقيته ومصداقية الجريدة لدى قرّاء لا يثقون أصلاً بالصحافيين». لكن، رغم الشرعة الأخلاقية التي يتغنى بها القيّمون على «نيويورك تايمز»، فقد وقعت الصحيفة الأميركية (تأسست عام 1851) في فخّ تغليب مصالحها السياسية على المهنية. عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل، تُخرق البنود وتُسخّر الصحيفة لخدمة السياسة الأميركية ومصالح الحليف الأوّل. إذ كشف موقع Electronic Intifada أخيراً أن نجل مدير مكتب «نيويورك تايمز» في القدس هو مجنّد في الجيش الإسرائيلي! إيثان برونر (56 عاماً) الذي عيّن في منصبه منذ عام 2008 هو يهودي يقيم في القدس المحتلّة، عمل لدى «تايمز» في قسم الدوليات، وكتب عدداً من التحقيقات الاستقصائية عن أحداث 11 أيلول 2001 وتنظيم «القاعدة» نال عنها جائزة «بوليتزر» للعام نفسه. مدير مكتب القدس يقول إنّه «يكتب عن الصراع الإسرائيلي ـــــ الفلسطيني منذ 27 عاماً، وهو يتمتع بمصداقية ومهنية عاليتين ليُعتمد مراسلاً للتايمز». الصحيفة بدورها، لم تنكر علمها بأنّ نجل برونر هو في الجيش الإسرائيلي. بل علّقت على الأمر في مقال نشر بتاريخ 6 شباط (فبراير) 2010، جاء فيه «نجل برونر هو شاب في العشرين وهو حرّ في اتخاذ قراراته بنفسه»، وأضافت أنّ برونر أبلغ هيئة التحرير بانضمام ابنه إلى القوات الإسرائيلية في كانون الأول (ديسمبر) 2009 وأنها «لا تجد سبباً لتغيير منصبه الحالي».
هكذا، برّرت «نيويورك تايمز» لنفسها خرق أحد أبرز بنود الشرعة الأخلاقية الخاصة بها ومنطق العمل الصحافي الذي يفرض عدم تداخل المصالح الشخصية لدى الصحافي، فكيف إذا كان في موقع حساس كالقدس؟ من جهته، تمنى برونر لو «يُقيّم على أساس عمله لا على أساس سيرته الذاتية». لكن «تمنّي» برونر لن ينقذه أبداً من المأزق ولن يبعد عنه الانتقادات. معظم المقالات الموقّعة باسم «إيثان برونر ــــ القدس» التي نشرتها الـ«تايمز» على مدى عامين كانت منحازة لإسرائيل بوضوح. خلال العدوان الأخير على غزة مثلاً، استخدم برونر عبارة «قنابل الفوسفور الدخانية» كي يشير إلى القنابل الفوسفورية التي ألقتها الطيارات الإسرائيلية على مدرسة ومنازل في غزة، موديةً بحياة العشرات من الأطفال والمواطنين. لكن العبارة التي استعملها برونر تشير إلى أنّ القنابل، وبما أنها «دخانية»، استخدمها الجيش الإسرائيلي لنشر «دخان كثيف يخفي تحرّكات الجنود الإسرائيليين عن العدو». هذا بالضبط ما فسّره في مقاله. لكن برونر لم يشر إلى مصادر معلوماته تلك، ولم يذكر أن هذه الأسلحة محرّمة دولياً وأنها قتلت المئات. كما تعامل مع صفتها «الدخانية» كمسلّمة، ما ينفي وظيفتها الأولى كقنابل فوسفورية وهي القتل المتعمّد للمدنيين

تحوّلت الصحيفة في عهد بوش أداةً للتهليل لسياسات الإدارة الأميركية

ويجعلها «قنابل دخانية سلمية» للتمويه العسكري فقط. مدوّنتا «Fairness & Accuracy In Reporting» و«العربي الغاضب» يذكران العديد من أخطاء برونر الواضحة في سياق تغطيته الأحداث في فلسطين المحتلة. انتقادات لاعتماد توازن مبالغ فيه في تغطيته عدوان غزة، فيما شاهد العالم بأسره مدى همجية ذلك العدوان وعدم توازن طرفي القتال فيه. وبعد عدوان غزة، بدا برونر منحازاً للجيش الإسرائيلي بوضوح عندما كتب على نحو شبه يومي مشككاً بتقرير «غولدستون»، وموضحاً وجهة نظر الجيش الإسرائيلي ودلائله القاطعة على عدم صدقية التقرير.
«نيويورك تايمز» ليست حيادية مهما كثرت جوائزها العالمية. الأمر لا يقتصر فقط على قضية برونر. إذ تحوّلت الصحيفة أقلّه في الفترة الأخيرة، وخصوصاً في عهد جورج دبليو بوش، إلى أداة للتهليل لسياسات الإدارة الأميركية وحروبها. وبرزت فيها أقلام بعض «الصقور» في السياسة الأميركية المتطرّفة ومبشّري الليبرالية (مثل الراحل ويليام سافاير ومورين دوود وتوماس فريدمان وبول كروغمان وغيرهم).
ويبقى السؤال: هل سنقرأ يوماً في الـ«تايمز» عن اعتداءات الجنود الإسرائيليين على الأطفال والمدنيين الفلسطينيين في مقال موقّع من القدس المحتلّة؟