منذ الثمانينيات، حاول أن يهرب من صورة الشاعر المتجهِّم، فلجأ إلى الخفّة والمباشرة. وفي ديوانه الجديد «حب في الغسالة» (دار الريس)، يعبث مع الألم بمزاج فكاهي ساخر

حسين بن حمزة
هل يحتمل الشعر النكتة وخفة الدم؟ سؤال ملحٌّ وضروري يرافقنا ونحن نقرأ مجموعة يحيى جابر الجديدة «حب في الغسالة» (دار الريس). لم تعد النكتة ممارسة طارئة في تجربة هذا الشاعر الذي بدأ بباكورة «بحيرة المصل» الحائزة «جائزة يوسف الخال» عام 1988، والتي حفرت اسمه بقوة في جيل ثمانينيات الشعر اللبناني.
نشر جابر مجموعتين أخريين: «الزعران» (1991) و«خذ الكتاب بقوة» (1994)، ثم توقّف عن الشعر. كتب في المسرح والصحافة الفنية. مازحَ الجميع بأنه مجرد «شاعر سابق»، ثمّ عاد إلى الشعر بغزارة أشدّ من قبل. مزاجٌ متهكّم وفكاهي وساخر صاحب انعطافات جابر وتقلباته. خلط صاحب «كلمات سيئة السمعة» المزاح بالجد، والحزن بالفرح. رسم لنفسه صورة مخالفة لصورة الشاعر المتجهِّم والمتأمل والمتفلسف. بالنسبة إليه، تصلح القصيدة فضاءً لكتابة الألم واللعب، وللعب بالألم أيضاً. لعل بعضنا خَشِيِ على تحول القصيدة لدى جابر إلى فن للإضحاك والسخرية، لولا أنّه واصل الكتابة بهذه الطريقة، محوّلاً إياها إلى نبرة وحساسية ومغامرة مسجلة باسمه. لم نعدم في شعره السابق سخريةً أو مفارقاتٍ شعرية تثير الابتسام والسخرية، لكنها لم تكن بهذه الكثافة.
عنوان مثل «حب في الغسالة» يُوحي بأن جابر يواصل ما كتبه أخيراً في «كأنني امرأة مطلقة» (2007) و«للراشدين فقط» (2008). لن يُلام القارئ إذا صنّف المجموعة على هذا الأساس، لكن الحقيقة أن جابر وضع فيها قصائد مكتوبة في زمن سابق للمجموعتين المذكورتين. كما أن إهداء المجموعة الجديدة «إلى سهى وزكريا» (زوجته السابقة وابنه)، يكشف لنا أن حياةً سابقة أيضاً تتراءى في ما نقرأه. هكذا، نجد تأويلاً أو تفسيراً مقبولاً لترجّح قصائد هذه المجموعة بين عالمين شعريين، فهي تذكّرنا بأجواء مجموعاته الثلاث الأولى، وتعزّز أجواء مجموعاته اللاحقة أيضاً. نجد قصيدة مثل «أين العدو»: «رأسي بفروته البيضاء/ مرفوعاً كجسدٍ كرمح/ أفتشُ عن منتصرٍ لأستسلم له/ أتعبتني الحروب/ ولم أجد عدواً»، أو قصيدة مثل «إبادة»: «بعد المجزرة/ أكملوا إبادة عائلة/ بالكاميرات». إلى جوار قصيدة مثل «العائد»: «كلما حاولوا طردي من لبنان/ أدخل إلى حمّام المطار/ وبكل كبرياء/ أُفنتر الإهانة/ وأعود». أحياناً يعلو الألم على النكتة كما في هذه الصورة: «حين تضخَّمت كروشنا/ صدّقنا أننا أثرياء/ يا بلاهة الفقراء». وأحياناً تعلو النكتة على الصورة: «عزيزي المحتلّ/ أثناء خروجك/ شدّ السيفون خلفك».

لا يكترث بأيّ قدسيّة للغة، ولا يهمّه أن يكتب شيئاً جميلاً

لا يكترث جابر بأيّ قدسيّة للغة. لا يهمّه أن يكتب شيئاً جميلاً. بالنسبة إليه، الشعر لا يعني الكلام الأدبي وجماليات البلاغة التقليدية. الشعر هنا يشاغب على الشروط والمعايير الدارجة للشعر. الخفّة والمباشرة واللهو هي المفردات الأساسية لأغلب ما نقرأه. بطريقة ما، يعثر ما سُمّي شعراً يومياً على ترجمة منطقية له. كانت شعرية التفاصيل واليوميات تعني التقاط العَرَضي والمهمل وتخليده في مشغل الشعر. صاحب «نجوم الظهر»، يسوق العَرَضي والمهمل كما هو إلى القصيدة. يمرِّغ الشعر في وحل الواقع وفظاظته الحقيقية. يُعنون إحدى القصائد بـ«Sex على إيقاع النشيد الوطني». يُعيد بطل قصيدته إلى البيت كأي زوجٍ خذلته أحلامه: «لا ترمقيني بعين ثور/ لستُ مصارعاً الليلة ولا رمحَ في يدي/ وعدتكِ بأن أكون خاتمة الرجال/ وعاشقاً كما الأفلام/ وعمودَ البيت كما الأمثال/ وأن أشتري الخُضرة/ في طريق العودة».
اليومي يصبح مفرطاً في يوميته. الكلام العادي واللهجة المحكية والركاكة تتسلل بسهولة إلى الكتابة. في قصيدة «اطلع برا»، نقرأ: معلم مادة البروليتاريا/ فُوجئ بالولد يرسم/ يرسم في الهواء/ امرأةً عارية/ على حصانٍ أبيض/ صرخ به:/ «جابر/ اطلع برّا/ خارج الصف الوطني». كأن يحيى جابر يكرر الأمر ذاته في الشعر، فيضع تجربته خارج «الصف الوطني الشعري».