دمشق | تنطوي أعمال طلال معلا (1952) الجديدة على شجن طويل يصعب نسيانه. هو ترجيع ليومياته في ظل الجحيم السوري الراهن، كأنما يعيد صوغ «عرس الدم» من ضفةٍ أخرى، أكثر مأساوية، ذلك أن إكليل البياض ملطّخ بالأسود، في متوالية بصرية مشحونة بالأسى والأهوال والموت المحقّق. ما نراه في أعمال التشكيلي والباحث الجمالي السوري هنا، هو حطام بشر وبيوت ومقابر.
وجوه منهوبة، وأطراف مقطوعة، وصور تذكارية غير قابلة للمحو، فالمخزون البصري المتراكم لديه، يلقي بثقله على هيئة وجوه مشوّهة، وندوب ووشوم وعلامات تحفر تضاريسها في الأجساد المنهوبة، وربما المنتهكة، أو التائهة في قوارب الموت، بالإضافة إلى فزع غامض يختزل الصورة برمتها. لحظات مطعونة بالغياب والشقاء والبوح، تذهب إلى عكس مقاصدها الأولى، خصوصاً، في ثنائيات العرس.
رجل وامرأة بعناقٍ مبتور، ونساء يحرسن رأساً مقطوعة، وبقايا بيوت تحوّلت إلى أنقاض. هكذا كان علينا أن نعيد ترتيب سردية الحواس، تبعاً لتحولات الأعمال، فالبهجة اللونية التي تهيمن على معظم أعماله، سوف تندحر تدريجاً إلى الرمادي والأزرق، في إشارة إلى اكتمال المأتم. بين هذين القوسين، يعمل طلال معلا على إعادة ترميم ما حدث، أو استرجاع إحداثيات كابوسه الطويل، بارتجالات صريحة تسعى إلى مقاومة النسيان، وأرشفة حصته من الألم، ومحاولة الصراخ بعد صمتٍ فقد مبرراته، فالوجع تجاوز القدرة على الاحتمال. عند هذا الحدّ، علينا أن نقوم بتركيب فسيفساء الألم السوري، تبعاً للإشارات الخاطفة التي تتناهب المشهد، في «غرنيكا» طازجة، سواء لجهة التوليفات الأسطورية التي يستحضرها من موقع الضّد، أم لجهة ما آلت إليه أوجاع كائناته، في تيهها بين الجهات، وعراء العيش، والغرق. هذا الاستغراق في المعنى والإحالات السردية التي تتكئ عليها أعمال معلا، لم تفقده، في المقابل، إخلاصه للتعبيرية التشخيصية التي تسم اشتغالاته اللونية والخطيّة سابقاً، عدا نقلات طفيفة فرضتها سطوة الموت، والخراب الروحي، والخوف. تذهب أشكاله إلى خطوط ثخينة تؤطر انفعالاته الحسيّة، فيما يتخلى عن إغماضة العين في أغلب بورتريهاته.
وإذا بها غارقة في جحيم غير مسبوق، فتتلاشى الحالة الحلمية إلى كوابيس مرئية لكائنات أقرب إلى الدّمى في تركيب أعضائها، عبر هذيانات لونية مرتجلة غالباً، فيما يراهن على البياض في لحظات مسروقة من تضاريس الدم، بما يشبه الانخطاف المباغت، أو توضيباً لتمرينات ذهنية تحيل إلى مسالك لونيّة مختلفة تحفر في ذاكرة منكسرة بتأثير عنف متراكم أفقدها حدّة التركيز. هذا من دون أن نهمل بالطبع، البعد الإيقاعي المحسوس لدرامية الوجوه، في أقصى حالات دمارها، محيلاً على تجارب مشابهة في رسم البورتريه، ولكن بخصائص وقيم جمالية مستمدة من مخزونه الشخصي وروحه النقدية التي تضفي بعداً معرفياً ووجدانياً، يشتبك تلقائياً مع تقنياته في بناء عمارة الوجه، أو منطقة الكثافة اللونية التي تسيل إلى بقية عناصر اللوحة لاستدراج العين نحو بلاغة أخرى للمعنى. بلاغة تعمل في الهامش، لم نتنبه إليها، كما ينبغي، نظراً إلى قوة المأساة في الوجه، أو المركز بعناصره المختزلة. الوجه إذاً، مكمن السّر، ومنطقة الحيرة والقلق والتيه، في تنويعات بصرية، تشكّل مجتمعةً، سيرة الكائن المنسيّ وصبواته وهزائمه، في عالم مسكون بالفجيعة والفقدان والضياع. سنقع على عتبة جديدة في أعمال معلا، أقله لجهة العنوان. بعد 10 معارض أقامها تحت اسم «صمت» في حالات تأملية تبطن نوعاً من الشعرية والمجاز والتطريب اللوني، أطلق في معرضه الذي استضافته غاليري «تجليات» في دمشق، قبل أشهر، صرخة موجعة هي «انتهى زمن الصمت» معلناً النفير، وهتك حجاب الصمت، واستجلاء المشهد بعنف لوني يوازي حطام سنوات الحرب التي وضعت كائناته في مهبّ العاصفة. وها هو في معرضه الجديد في غاليري «تجليات» في بيروت يستكمل هوامش المشهد تحت عنوان «أرى الناس»، من دون أن يخرج من مناخاته السابقة، بل يرممها بمشهديات أكثر ضراوة وعنفاً واحتجاجاً، في مواجهة تختزن غضباً مكبوتاً، وتراجيدياً متشظيّة، لشخوص وجدوا أنفسهم في عراء العدم. لم تعد اليد المقطوعة للمرأة أو الرجل، مجازاً صرفاً، كما هي حالها، في أعماله السابقة، بل تعني يداً مقطوعة، كما علينا أن نردم المسافة بين وحوشه الأسطورية الرابضة في كهوف التاريخ، والوحوش الآدمية اليوم. أما ما كان يقع في باب الطلاسم، فلم يعد بحاجة إلى التفسير بقدر ما هو حدس بوليمة موت متنقّلة، ومآتم، ومدوّنة غياب قسري تفضحها أحوال الوجه، تبعاً لقوة الكابوس.

«أرى الناس» لطلال معلا: بدءاً من 5 حتى 31 تشرين الأول (أكتوبر) ــ غاليري «تجليات»، بيروت ــ للاستعلام: 009611987205 ــــtajalliyat.com