تحوّل المسجد الأقصى إلى أرجوحة دائرية ترتفع وتدور إلى ما لانهاية، بواسطة التحريك الرقمي في «الأقصى بارك» (2006). وحادثة اغتيال السادات لم تكن سوى لعبة أخرى لأطفال على طريقة برنامج تيليماتش للألعاب في «تيليماتش السادات» (2007). عام 2005، تلا علينا سورة الكهف بين بضائع السوبر ماركت مقارباً الانتقال من مكة إلى المدينة بالتحوّل نحو الرأسمالية.
أعمال وائل شوقي (1971) خدش لهالة التاريخ الديني والسياسي. لم ترق الفنان المصري سطوته التي لا تنفك تكبّل مجتمعاتنا، بوقائع متوارثة قادتها خفة وعبثية مطلقتان. بتلاعب يقارب اللهو، واجه هذه العبثية، بينما لم يكن عليه أن يتبنى التاريخ باعتباره منصة ثابتة.
في ثلاثيته «كباريه الحروب الصليبية»، ينجح شوقي في تطويع 1000 سنة لإشباع خياله. متمسّكاً بتلك النزعة الجامحة لزعزعة التاريخ والإيغال في المجتمع والسياسة والدين، يواجه في «كباريه الحروب الصليبية» صلابة أهم الأحداث في التاريخين العربي والغربي. لم تشكل تقاطعات هذه الحروب، وتفرعاتها الداخلية (عربياً وغربياً)، وارتباطها بأحداث أخرى، وامتدادها لحوالى 200 عام، سوى فسحة أخرى للعب وإعادة تركيب التاريخ مجدداً بين الحقيقة والفنتازيا.
طموح هائل، نتأكد أنه لا يمكن أن توازيه سوى ضخامة المشروع نفسه. «كباريه الحروب الصليبية» عمل تجهيزي وفيديو يقسم إلى ثلاثة أجزاء. تستند الثلاثية بشكل أساسي إلى كتاب «الحروب الصليبية كما رآها العرب» للروائي اللبناني أمين معلوف. مع الوقت، ستبدو رواية معلوف مجرد إطار عام لإظهار الحروب من وجهة نظر عربية، لا لتبنيها بالمطلق. الاعتماد على الوقائع التاريخية هو منفذ لزعزعتها، عبر سياق فني مركب، ومتعدد الطبقات. ليس هناك دليل أدق على هذا سوى خيار شوقي باستخدام الدمى كأبطال لعمله الثلاثي. يقدم الجزء الأول من «كباريه الحروب الصليبية: ملف عرض الرعب» (31 د) 2010، عرضاً للحروب الصليبية، متتبعاً الأحداث التي وقعت خلال أربع سنوات (1096-1099)، وكانت البداية لتبدلات سياسية لاحقة. في هذا الشريط، استخدم شوقي دمى خشبية من «متحف لوبي» الإيطالي يعود عمرها إلى 200 عام.

مزج سوريالي بين الرواية
التاريخية والمناخات البصرية الفانتازية
يبدو هذا الخيار تجسيداً لهشاشة التاريخ، ولتجريده من البعد التلقيني الجاهز. خيار الدمى لم يفارقه أيضاً في «الطريق إلى القاهرة» (2012)، و«أسرار كربلاء» (2015) الجزءين الأخيرين اللذين تحتضنهما «صفير زملر» (الكرنتينا ــ بيروت) حتى الثاني من كانون الثاني (يناير) 2016. في المعرض التجهيزي، لوحات ودمى وفيديو، وجدار كبير يمتد على طول الصالة الثانية من الغاليري. في الصالة الأولى، تطالعنا لوحات أشبه بخرائط للأماكن والمدن التي وصلت إليها الحروب الصليبية، أنجزها شوقي بالحبر الزيتي وبألوان خفيفة. تمشي الأعمال الثلاثة ضمن سياق زمني متتال، رغم ذلك، لا يسعى شوقي إلى تجسيد التاريخ. أمام خلفية سينوغرافية مصنوعة من الكولاجات الفارسية، يمتد «الطريق إلى القاهرة» (2012) في الفترة الفاصلة بين الحربين الصليبيتين الأولى والثانية التي شنها مسيحيو الغرب على الأراضي المقدسة. أبطاله دمى مصنوعة من السيراميك الملون. بملامح هي مزيج بين البشري والحيواني، يصوّر الشريط همّ العرب في النجاة. وإن كان يريد أن يظهر الحروب من وجهة النظر العربية، إلا أنهم ليسوا ضحايا بالمطلق. خيانات وقتل وذبح، ودموية رهيبة على وقع موسيقى حزينة ترافقنا معظم الشريط باستخدام التقاليد الموسيقية البحرينية لصيد اللؤلؤ، وطريقة غناء الرادود الشيعي، وموسيقى «الفجيري» التي سافر شوقي إلى البحرين لتسجيلها بأداء فرقة «قلالي». ورغم أنه يفرد ساعات لنقل الحوارات وتفاصيل الحروب الصليبية، فإن الدقة والتوثيق في نقل الأحداث ليسا الهم الأساسي لدى شوقي. ينتهي التاريخ حالما تنتهي الوقائع في زمانها، مفسحة الباقي للخيال. تخرج التفسيرات على شكل قصص معرّضة دائماً للإضافة والنقصان. شرائط شوقي حكايات أخرى، لكن بطرح مختلف يجمع بين السرد والدمى، والموسيقى والسينوغرافيا، فيما يمزج بين الواقع والوهم، والجو الأسطوري والسوريالية، والأحداث الدرامية الملحمية مخففة بالسخرية. كل ذلك من خلال كسر سطوة التاريخ بالوجوه الممسوخة والحيوانية التي تجرد الحكام من قداستهم، وتعطيهم بعداً خيالياً محضاً، إلى جانب الحبال التي تتحكم بهم. يلعب المشروع على أكثر من مسار. من خلال هذا المزج السوريالي بين الرواية التاريخية والمناخات البصرية الفانتازية، يشكك في التاريخ نفسه من جهة، مستنداً في ذلك إلى تعدد الروايات، بينما يسائل الحروب الصليبية وتشكّل الهوية العربية. أما شريطه الأطول «كباريه الحروب الصليبية: أسرار كربلاء» (2014) والجزء الثالث منها فيصوّر الحروب الصليبية الثانية، أي الفترة التي كانت فيها مصر قوة في المنطقة، والانقلاب الذي حصل في العالم العربي، حين أرسل نور الدين زنكي القائد صلاح الدين الى مصر الذي حوّلها من الشيعة الى السنة، بعد القضاء على الفاطميين. دمى زجاجية تحمل ملامح الزواحف والكائنات المائية تقود الأحداث، قام شوقي بتصميمها وصنعت في البندقية. ومن خلالها يتوغّل في تفاصيل الخلافات المذهبية. الشريط (120 دقيقة) الذي يبدأ من التفاصيل وراء حادثة كربلاء، عبر سينوغرافيا دائرية ومتبدّلة تمر بالقاهرة ودمشق ومكة والكوفة، لتصوير الخلافات المعقدة بين السنة والشيعة، تقابلها الصراعات بين الكاثوليك والأرثوذكس أيضاً. صرامة الرواية التاريخية، التي تخرج علينا بلغة عربية رصينة تتنافر مع الأجواء الخيالية التحريكية للدمى الناطقة، لتترك لدينا ذلك الانطباع الفكاهي الذي يبدو بعيداً جداً عن سياق التاريخ.
هنا تلاعب ماهر ببصر المتفرّج وبفهمه اليقيني. يقول الفنان المصري إنه يحاول قدر الإمكان الابتعاد عن الأحداث العربية الراهنة، لكن «كباريه الحروب الصليبية» يظهر عكس ذلك. خصوصاً أنه يسائل تأثير التاريخ كثابت اجتماعي لا يزال يلقي بظلاله على العلاقات السياسية العربية الغربية، والدينية والسياسية العربية العربية، رغم أنه هش كرقصة دمى تحركها حبال مجهولة، أو كنكتة دموية مكررة وفق الطرح الفني الفريد لشوقي.

«كباريه الحروب الصليبية»: حتى الثاني من كانون الثاني (يناير) 2016 ــ غاليري «صفير ـ زملر» (الكرنتينا ــ بيروت). للاستعلام: 01/566550