strong>نوال العلي بلغ عاموس عوز 71 عاماً. إنّه أكبر من الاحتلال الذي ينتمي إليه. صدق حدس والدته حين قالت له: «ستكبر لتصير جرواً مهذاراً مثل أبيك». كبر الروائي الإسرائيلي في منزل يميني متطرف ينتمي إلى جماعة زئيف جابوتينسكي، أحد أكثر التيارات فاشية في الحركة الصهيونية. ثم غادره مراهقاً إلى «كيبوتس حولده» ليتعلم هناك كيف يصير جرواً إسرائيلياً مدرباً وجميلاً، لا يمكنك أن تراه بشعاً إلا ينتقدك أحدهم باسم التقدمية مرة، وباسم الأدب الجميل طوراً. هكذا، تعلّم عوز كيف تنضمّ الموهبة بذكاء إلى أدوات تحقيق إسرائيل. لكنّ من يَرى وجه «أومن» في الفيلم الشهير، لا يصدق أنّه ابن الشيطان. لنتذكر شخصية إسرائيل في قصيدة «الأميرة ساباث» للألماني هاينريش هاينه، شاعر عوز المفضل. هنا، تظهر كرجل يقضي أيام الأسبوع كلباً ثم يتحول ليلة السبت إلى رجل بملابس الاحتفال.
سجّل عوز انتصاراً من دون أن يسعى إليه. جعل حفنة من الكتاب العرب يكتبون مقالات حب عن مذكّراته «قصة عن الحب والظلام». حتى إنّ كلمة «احتلال» لم ترد قط. بدلاً منها، بات يقال «إرساء دعائم الدولة الإسرائيلية». كذلك فإن ترجمته عن العبرية مباشرةً رُوِّج لها من دون الخوض في شبهة التطبيع. بل قرأنا عن المسألة كما نقرأ إعلانات مكاتب السياحة في الصحف الأردنية، عن رحلات إلى حيفا. ترى هل حصلت «دار الجمل» على حقوق الترجمة من عوز قبل أن يترجمها جميل غنايم؟ لا بأس إن لم تفعل، فعوز متشوق كي يقرأ العرب كتابه «ويكتشفوا أنّ إسرائيل مثل فلسطين... هي مخيم لاجئينأصبح يقال في معرض الكتابة عن العمل إن العرب يتجاهلون عوز «آخذين عليه انتماءه الإسرائيلي الوجودي، لا السياسي فقط». عدم المؤاخذة، القصة أعمق من أن نأخذ عليه انتماءه الذي يكرسه عدواً إلى الأبد. لولا ذلك، لقبل محمود درويش مثلاً أن يشاركه عوز أمسيته في برلين عام 1995.
قرأنا صاحب «ميخائيلي» وهو يؤيد ضرب غزة 2008. وسمعناه يؤيد قصف لبنان، آسفاً على اللبنانيين الذين «يختبئ خلفهم حزب الله». وهو الرجل نفسه الذي دعا إلى إقامة الدولتين، ليس تعاطفاً مع الفلسطينين، بل لأنّ التجربة علمته أن «الفلسطينيين لن يزولوا». وعوز الذي سماه شيمون بيريز مرة خليفةً له في قيادة حزب «العمل»، هو أحد مؤسسي ما يسمّى حركة «السلام الآن» ممن طالبوا (1991) بقصف العراق بالقنابل النووية، وأدان حركة السلام الأوروبية لمعارضتها حرب الخليج. وهو كذلك القائل: «كل مرة نسمع عن مشكلة اللاجئين، تتقبض بطوننا لكثرة الخوف والقلق. أصبحت مشكلة اللاجئين عندنا مرادفاً لحق العودة، وحق العودة قضاء علينا». كلما حاولت أن تمسك لعوز موقفاً، انزلق من يدك كسمكة، إنه إسرائيلي صهيوني نموذجي. يعتد بذلك ويهاجم اليسار غير الصهيوني، وخصوصاً إذا انتقد الأخير أي عمليات عسكرية للجيش.
ترى، لماذا يأسف كاتب عربي لأن العرب يجهلون عوز أو يتغاضون عن قامته الأدبية العالية؟ يكفيه أن يحتفي به العالم بأسره، جوائزه لا تحصى من إسرائيل إلى أوروبا، وليس مستبعداً عن هذا الصهيوني «التقدمي» أن يحصل على «نوبل». إضافة إلى لغته الرائعة، بلا شك، وقدرته الأدبية الفذة، يستطيع أن يرى صاحبنا وعدونا بالعينين الاثنتين، هذا الرجل وهو يتقلّب بين موقفين في غمضة.
ربما أصدرت «الجمل» مذكرات عوز من باب «اعرف عدوك». لكن الاحتفاء بها بكل تجرد كتحفة أدبية فقط، كان يتطلب برودة أعصاب حقيقية ممن كتب عن الرواية. وطبعاً، إذا أصدرت «الجمل» الرواية، مع العنوان بالعبريّة على الغلاف الداخلي، وعبارة «حقوق الطبعة العبريّة محفوظة للمؤلّف»... وإذا هلّل موقع إنترنت محتفياً بالحدث، مسارعاً إلى نشر الفصل الأول منها، وإذا كتبت إحدى الصحف العربية المعروفة، فمن الطبيعي بعدها أن تهلّل كلّ المنابر التي تروّج لـ«ثقافة التسامح»... ومن الطبيعي أن يحتفي الجميع بهذا الحدث الأدبي والسياسي «الاستثنائي».
يشبه هذا العمل الضخم، الذي قرأته بنسخته الإنكليزية فقط، مقطعاً عرضياً أو شريحة للمجتمع الصهيوني بعين عاموس الطفل الذي يروي حكايته وكثيراً ما يظهر في شخصية المستمع للروايات. وهي حكايات تتشابك وتتقاطع مع قصة انتحار والدته البولندية الأصل فانيا عام 1952 بجرعة زائدة من المهدئات: «من يوم وفاة أمي وحتى يوم وفاة والدي، عشرون عاماً، لم نتكلم عنها مرة واحدة. (...) كما لو أن حياتها كانت صفحة أخفيت من الإنسايكلوبيديا السوفياتية». فانيا من الشخصيات الغريبة التي لم تستطع احتمال الواقع الجديد ولا الذكريات القديمة، هي امرأة تدفع الآخرين إلى الضحك لتبقى وحدها في الصمت.
يقدم عوز «قصة عن الحب والظلام» عن الأثقال النفسية التي حملها الصهاينة أجداده إثر معاناة اليهود في أوروبا، قبل احتلالهم فلسطين. يفعل ذلك عبر بعث الشخصيات التي صنعت طفولته، واستعادة تاريخها وسلالاتها والحديث الذي كان يدور عن فلسطين «أرض الخلاص» بالنسبة إليهم. ثم يستند إلى ما لقيه هؤلاء ليكون شفيعاً إنسانياً وسنداً حاسماً لا جدال فيه على أن المحنة اليهودية ما كانت لتنتهي إلا في فلسطين. المفارقة أن صاحب «منحدرات لبنان»، يرى أن بين العرب والإسرائيليين ماضياً مشتركاً وقاسياً مع أوروبا، ويذكر في مقال له في مجلة «تي. إل. إس» اللندنية أن كليهما تعرض للويلات على يدها: هما مثل طفلين لأبوين سيئين، لم يعد باستطاعة واحدهما أن ينظر الى الآخر.
حاول صاحب «فجأة في عمق الغابة» أن يضلل قارئه ليتعاطف مع شخصيات متطرفة، فقدم أحياناً الملامح الصهيونية المتطرفة بأسلوب كاريكاتوري ساخر، وبلغة تخدع وتقدم الشخصية اليمينيّة على نحو مسلٍ. العرب الموجودون في الخارج، بالنسبة إلى الجدة شلوميت المصابة بوسواس النظافة، هم تماماً مثل الجراثيم التي لا تراها العين، لكنها تنتظرك في مكان ما لا محالة كي تفتك بجسدك. تقول شلوميت: «لا شيء في الخارج سوى الجراثيم وأعداء السامية». هؤلاء العرب الذين اقترح جده في حرب الأيام الستة، أن تساعد أمم العالم إسرائيل «لإعادة عرب بلاد الشام باحترام كبير، من دون أن تُسقط ولو شعرة واحدة من رؤوسهم ومن دون أن ننهب ولو دجاجة واحدة من أملاكهم إلى وطنهم التاريخي: العربية السعودية».
أما الرجل العربي العطوف الذي أنقذ عوز «من فخّ الظلام وحملني بين ذراعيه عندما كنت ابن أربع أو خمس سنوات فقط، الرجل النعسان واللطيف هذا، ذو الابتسامة الخجولة التي تلمع للحظة على شفتيه، ثم تعود لتختبئ تحت شاربيه الشائبين الطريين، فهو يسنّ الآن حربته بحجر، يسنّ قلبه ويستعد لذبحنا جميعاً. وأيضاً سيتسلل هو إلى شارع عاموس في منتصف الليل مع سكينه الطويلة الملتوية بين أسنانه لذبحنا، ليحزّ حنجرتي وحنجرتَي والديّ ويغرقهما في الدم». لم تتغير صورة العربي تلك منذ بدايات عوز مع روايته الأولى «مكان آخر، ربما» (1966)، حيث نقرأ أن «العرب يفهمون فقط لغة واحدة، لغة اللكمات ويعدّون ضبط النفس ضعفاً».

تتناول الرواية معاناة اليهود قبل احتلال فلسطين وتصوّر العرب كالجراثيم
في عام 1995، وصف الروائي إلياس خوري (مقالته منشورة على موقع «المركز اللبناني للدراسات») الفلسطيني في أعمال عوز بأنه شبح وتهويمات. وأشار إلى استعادة عوز لمناخات كامو في «الغريب»، إذ يغرق في الصورة الكولونيالية الكلاسيكية. «العربي الجزائري غير موجود، وإذا وجد فلا يتكلم. وإذا تكلم فلا نفهمه. لذلك يقتله الفرنسي الغريب بصورة عفوية ــــ عشوائية، كأنه لا يقتل أحداً». ويظهر الفلسطيني بوصفه حاجةً لمسار العمل الروائي، كما قال الروائي الإسرائيلي عاموس كنعان «أحتاج إلى عربي». وُصفت «قصة عن الحب والظلام» لدى تقديمها بالإنكليزية وعرضها في «نيويورك تايمز» بأنها تباكٍ على الحلم الاشتراكي الصهيوني... هذه البلاد ليست بلاد المثقفين والعمال والبروليتاريا، إنها شعب من المجندين. لكن عوز لا يقول ذلك صراحة، بل يندب الثقافة والخيبات التي لقيها كثيرون مثل فانيا وخالته سونيا في أرض الميعاد. كان على الفلسطينيين أن يكونوا أكثر هدوءاً لكي تتناول العائلة اليهودية التي ما زالت تتعافى من جراحها، عشاء السبت من دون منغصات.