عن الحفر في الذات وملامسة أسرار الخلود حازم سليمان
الطفل الذي سرق قطعة صلصال من مرسم المدرسة الابتدائية ليصنع منها تمثالاً لأخناتون، صار في الثمانين الآن. يده تشبه إزميلاً، والثانية تأخذ هيئة القابض على مطرقة. يمشي برصانة كاهن تتبعه كائنات آدمية وحيوانية وطيور فيها من القوة والنقاء والعمق ما يكفي لتحدّي الزمن وملامسة الخلود.
هي ليست مصادفة بلا شك: أن يرمم آدم حنين (1929 ـــــ القاهرة) تمثال أبو الهول بعد آلاف السنين على بنائه. هو فرعون معاصر، وريث حقيقي لكَتَبة المسلّات ونقّاشي الرسوم الغائرة على جدران الكهوف والمعابد والأضرحة. طفولته التي عاشها بين المعابد القديمة متأمّلاً تركة مهولة من النحت والرسم، إضافة إلى تشبّعه بثقافة شعبية عميقة، كانا سببين كافيين لإنجاز مشروع نحتي أصيل متجذّر في البيئة المصرية، ومنفتح في الوقت نفسه على العالم وتحوّلاته الثقافيةالسنوات الطويلة التي عاشها في أوروبا، وخصوصاً باريس، (1971 ـــــ 1996) لم تجعله أسيراً للكثير من التيارات التشكيلية التي كان قريباً منها. ولم يعد من رحلته مُبشِّراً كغيره من الرواد، بل حمل فنه إلى العالم تاركاً للآخرين أن يتأثروا به لا العكس. يقول «كنت أقيس كل ما أراه على ضوء النحت المصري القديم الذي أصبح بمثابة زاوية حكمي على الأشياء».
رغم صعوبة عزل أعمال حنين عن سياقها التاريخي والثقافي والاجتماعي، إلا أنّ حلول بعض أعماله ضيفة حالياً على «مهرجان أبو ظبي» يُعد فرصة استثانية لتتبّع ملامح تجربة نحتية تجاوزت ستين عاماً: عشرة أعمال برونزية من مراحل زمنية مختلفة هي قوام هذا المعرض المستمر حتى 10 إبريل (نيسان)، من بينها عمله الشهير «كائن متحضّر» الذي أُنجز بين 1977 و1987، وهو واحد من الأعمال الكثيرة التي بدأ بها حنين وهجرها لسنوات طويلة قبل أن يستسلم لإغرائها. يقول: «أبدأ أحياناً بعمل ما بحماسة شديدة، ثم أتركه لأسباب أجهلها، ثم أعود لأكمله بعد سنوات عدة. وحين أحاول تفسير الأمر، أتصوّر أنّ إيقاعاً ما كان هارباً مني، ثم عاد من جديد، ربما لأنّ الفن بالنسبة إليّ هو حفر في الذات واكتشاف لخباياها».
في هذا العمل التجريدي بامتياز، التواءات وتموّجات وكسر للسطح وإظهار ذكي لطبقات رقيقة متفاوتة في الأعلى، جعلت من هذا العمل المستتر رمزاً حقيقياً لمرحلة اشتغل فيها حنين على استنطاقات عميقة للجوهر والمعنى والوهج الداخلي، مع نفي كامل للعناصر العرضية. التفاصيل هنا مجرد لمسات وإيحاءات فائقة في الصغر والتبسيط.
«ماري تايلوس» منحوتة لفتاة تستمد قوتها من انسيابية مفرطة. الإلغاء التام لتفاصيل الجسد مقصود في عمل تبرز فيه إحدى مهارات حنين في خلق معادل بصري درامي بين متناقضات عدة، مثل الضعف والقوة، الثقل والخفة. وأيضاً مهارته في تحريك الساكن العالق في عمق الشكل واقتياده إلى السطح، بحيث يصير قادراً على بناء علاقة مع الفضاء المحيط به. عمل مراوغ تتخفّى فيه الأنوثة خلف سواتر هشّة موحية، ويضمحلّ فيه التأثير الغريزي المباشر.
يصعب الإمساك بمصدر الحيوية التي تتّسم بها أعمال حنين. نحته المنجذب إلى فكرة الخلود ثابت وراسخ في مكانه. الحركة في العمل تلبية لنداء داخلي وعاطفة متجذّرة في بنية العمل وكتلته القوية المتماسكة. ينتصر حنين لروحية الأشياء، ولذلك تشي استحضاراته لأشكال الطيور بهالة قدسية وطقسيّة.
وفي منحوتة «هي من تراقب أحوال الليل»، يضعنا حنين على تماس مباشر مع التلخيص والاقتضاب، رغم الاحتفاظ بمظهر صريح لشكل العمل، وهو لبومة من البرونز. يظهر هذا العمل الميل العقلاني الذي يحرّك منحوتات حنين، والإحساس العميق بالإيقاع وإثارة

صاحب مشروع فنّي أصيل متجذِّر في البيئة المصرية ومنفتح على العالم

المخيّلة والانفلات من سطوة الواقع. ولا أدلّ على ذلك أكثر من منحوتة «تسامي» التي جسّدت طائراً يخترق الفراغ برقبة دقيقة رشيقة. وكذلك «التفاتة» التي تمثّل طيراً يشبه الصقر يقف راسخاً في مكانه بأرجل قوية ثابتة. في هذين العملين، تبرز الثقة بالنفس المقترنة بأناقة مؤثرة. توازنات وقراءات في الشكل وإعلاء لقيمة الحلم. تظهر أمامنا تأكيدات الحوارية الطويلة التي يجريها حنين مع الخامة، ليبني معها علاقة شخصية وحميمة، متحرّراً من سطوة الإحساس بالزمن بمعناه المادي الضيق.
تمثل أعمال حنين اليوم واحدةً من أبرز التجارب الفنية حول العالم. استطاع أن يحيل احتكاكه وعلاقته المباشرة مع أسماء غيّرت لغة النحت في العالم أمثال الروماني قسطنتين برانكوزي والبريطاني هنري مور والسويسري جياكوميتي، إلى إعادة استنهاض لعناصر النحت ومرجعياته في الشرق. لم يعمل حنين على مفاهيم عابرة ولم يتأثر بالتحوّلات الطارئة التي عاشها فنّ النحت. استطاع أن يترك بينه وبين الرائج الزائل مسافةً كافية. قدّم استحضارات عميقة لجوهر الأشياء ومعانيها التي تختبئ بين انحناءات مثيرة بصرياً وملمس لا يخلو من قدرة على الاستفزاز ونقل جملة من المشاعر الحميمية المختلطة.


حتى 10 نيسان (أبريل) ـــــ «فندق قصر الإمارات»، أبو ظبي ــــ للاستعلام: 009716778432