يشتغل على إعادة تأهيل أنماط الحياة الحضريةجاد نصر الله
المعمار الذي بدأ حياته صحافياً قبل أربعة عقود، وصفه جيفري كيبنيز محرر مجلة «ال كروكيس» الإسبانية بأنّه لو «كوربوزييه العصر». ريم كولاس (1944) الذي صار اليوم أبا العمارة الحديثة ومؤسسها، زار بيروت الاثنين الماضي في حدث نادر من نوعه يشهده لبنان. لم يكن مستغرباً مشهد الذين احتشدوا في «قاعة عصام فارس» في الجامعة الأميركية في بيروت قبل ساعات من موعد الندوة. المعمار الهولندي حطّ فجأة في لبنان ليعرض في خلال ساعتين مسيرته المهنية وما يدور في رأسه من أفكار ناضجة وأخرى غير مكتملة تتعلق بالعالم وتطوّر المدن. في القاعة المزدحمة، أعاد المعمار الستيني فتح النقاش التاريخي في المفاهيم والمبادئ المعمارية من خلال ترجمته لفضاءات جديدة مبتكرة ألهمت الفكر المعاصر. هذا التجديد جاء بعدما سُلّم بحتمية الفضاءات والتخطيطات المدينية مع التحول الجذري في التاريخ الذي أحدثه المعمار الفرنسي لو كوربوزييه في فكر العمارة، مطلقاً قرناً من الحداثة وما بعدها، من خلال مبادئه/ قوانينه الخمسة التي أعلنها وما تختزنه من مرونةتأثر كولاس المولود في روتردام بأبيه حين كان ملحقاً ثقافياً. من هنا، ربما، بدأ نتاجه الصحافي والأدبي وكتابة سيناريوهات الأفلام السينمائية، إذ نشرت له مؤلفات عدة حتى قبل أن يشرع في بناء أول تصميم له. هذه الانطلاقة الأدبية أتاحت له ابتكار أساليب جديدة في التصميم والتفكير المعماري جعلته يمتلك خبرة هائلة في العمارة المتعددة الأشكال التي تستدعي إعادة التفكير في جميع المسلّمات النظرية والبديهيات الفلسفية. «لأنني كنت صحافياً، أعي تماماً التأثير الذي يحدثه التبديل الخفي في المعاني الكامنة وراء الكلمات». بعدما تخرّج من «مدرسة لندن للعمارة»، توجّه إلى نيويورك ليكمل بحوثه. خلال هذه الزيارة، نشر كتابه الأول «هذيان نيويورك» الذي وصفه بأنه «وثيقة مرجعية لمانهاتن»، فيما لم يرَ فيه النقّاد حينها أكثر من نص كلاسيكي عن العمارة الحديثة والمجتمع. بعدها، انتقل كولاس إلى نوع آخر من نشر الكتب مع S,M,L,XL الذي وُصف بأنّه رواية عن العمارة وContents وMutation. وجميع هذه المؤلفات قُدِّمت بطريقة غير تقليدية تجمع بين النص المكتوب والتصميم الغرافيكي والشرائط المصورة الساخرة.
يصعب ربط كولاس بتيّار فكري محدّد. ليس تفكيكياً ولا ينحصر في قوانين العمارة الحديثة. أعماله تجنح نحو أسلوب إنساني، بمعنى إشراك البشر كعناصر محدِّدة للماهية المعمارية وفاعلة فيها، ومحرِّكة للمبنى الذي تسكن وتتفاعل من خلاله وليس بالمعنى الطبقي. وأحياناً، يُصنّف ضمن المدرسة التفكيكية التي بدأت بالظهور في الثمانينيات، مستلهمة أفكارها من الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، وكان من أبرز روادها في العمارة برنارد تشومي وفرانك غيري والمعمارة العراقية زها حديد التي تتلمذت على يد كولاس، ثم انفصلت عنه لتشقّ طريقها الخاص. حين أُحيلَ كولاس على التيار البنيوي في البدء، أعلن تحوّله عنه لأنّه أسيء استخدام أفكار هذه المدرسة بطريقة فظيعة. ولعل هذا الإعلان الصريح يفتح الباب على نقاش يتعلّق بإساءة فهم الطراز المعماري الذي يظهر في عمارة كولاس، إذ نرى تصاميم مستوحاة من أسلوبه تنتشر في العالم، لكنّها هجينة ومنسوخة كيفما اتفق، لا تتجاوز الحدّ الجمالي والتوزيع الوظيفي، كذلك فإنّها لا تحاول أن تتعمّق في الفلسفة التي ولدت منها هذه الأشكال والتصاميم الجديدة والمبتكرة ـــــ والأهم من ذلك ـــــ الراسخة في موقعها والمعمِّرة في الزمن لدى كولاس.

ليس تفكيكياً، ولا ينحصر في قوانين العمارة الحديثة، ويصعب ربطه بتيّار فكري محدّد

لدى منحه جائزتها عام 2000، وصفت لجنة تحكيم «جائزة برايتزكر» (بمثابة نوبل في العمارة) هذا المعمار بأنّ «أعماله أقرب إلى الأفكار منها إلى الأبنية». وهذا بالذات ما حاول كولاس شرحه في ندوته البيروتية، إذ قَصَدَ أن يُفهِمَ كلّ معمار وطالب عمارة أنّ الأدوات البحثية التي لا يمكن أن تُسجَّل ظاهرياً في التصميم، نراها جلية في تجديد المفردات القادرة على مخاطبة ما يحصل من حولنا. «بالنسبة إليّ، فإن أي مشروع على المدينة يُدخِل مئتي كلمة ومصطلح جديد، فذلك يعدّ نجاحاً».
أسّس كولاس شركته OMA عام 1975 مع زها حديد وإيليا وزوي زنغليس ومادلون فرايسندورب (معماريين ورسامين)، لكن الفريق الذي أطلق المشروع قي تلك الفترة تغيّر كلياً، ولم يبق منه إلّا كولاس الذي يدير اليوم فريقاً يتجاوز مئتي شخص يتوزعون بين نيويورك وروتردام وبكين. يتجاوز عملهم المستوى المجرد للتفكير المعماري إلى السرد الاستعاري والأسطورة الأيقونيّة. هو اليوم الأكثر إلهاماً وجدلاً وإثارة للنقاش على مستوى العمارة المستقبلية. منذ تأسيسها وكولاس يسعى في OMA إلى تطوير أشكال متحوّلة ومتحركة في التنظيم المديني وطرز معمارية جديدة تجد لها مكاناً في عملية إعادة تأهيل نمط الحياة الحضرية.

ثمّة شيء يحدث في الداخل



«من دون أن ينذرنا أحد، فإن طبيعة المدينة قد تغيّرت جذرياً من العام إلى الخاص. (...) المسألة الجوهرية أنّ المدينة وُجدت لتكون مجانية. أمّا الآن، فعليك أن تدفع مقابل كلّ شيء، سواء أكنت تريد دخول المتحف أم المتجر»، يقول ريم كولاس. منذ منتصف التسعينيات، نجح المعمار الهولندي في إنجاز مشاريع أولية للمتاحف تدور حول مفهوم الانتقال من الخاص إلى العام في المدن الحديثة، وتوجه العمارة نحو متطلبات السوق.
لعلّ مبنى Casa da Musica في البرتغال (2005) مثال واضح عن هذا الهاجس. فتح كولاس محاور الرؤية في البناء على حديقة «روتاندا دو باتيفيسدا» التاريخية من خلال الواجهات الزجاجية الشفافة. خيار يحمل رمزية واضحة، في دعوته المحيط إلى معرفة «أن ثمّة شيئاً يحصل في الداخل».

صمّم مبنى التلفزيون الصيني و«مكتبة سياتل العامّة»

وفي الإطار نفسه، يطرح مبنى «مكتبة سياتل العامة» (2004) نفسه كمشروع مغاير ومتحدٍ للقوالب التقليدية للمكتبات تاريخياً. عدم التناسق يحكم كتلها الثقيلة وواجهاتها الزجاجية من دون أي منطق بصري واضح. النتوءات غير المنتظمة في جدرانها الملتوية تحدث شرخاً في رتابة الواجهة العامة من دون أن تتخاصم مع التناغم الموجود. وبرغم كل ذلك، يبدو التنظيم الحر للغرف، وترابط الفضاءات الداخلية، خاضعاً لمنهج يريد أن يطبع المحيط بهوية خاصّة.
يبقى المبنى المركزي للتلفزيون الصيني (cctv) المحطة الأبرز في مسيرة كولاس. بعد انهيار برجي مركز التجارة العالمي في أيلول (سبتمبر) 2001، دُعيَ كولاس للمشاركة في مسابقة تشييد البناء الجديد المزمع إنشاؤه. وفي الوقت عينه، تلقى دعوة أخرى لتصميم التلفزيون الصيني. تخلّى المعمار الشهير عن المسابقة الأولى (فاز فيها لاحقاً المعمار الإسرائيلي دانيال ليبسكيند)، معتبراً أن أي بناء جديد في مانهاتن سيغلب عليه طابع الحنين الرمزي. مبنى التلفزيون الصيني ليس الأكثر ارتفاعاً في الصين أو العالم... لكنّ هذا البرج «غير المستقر» وفق تعبير كولاس، يعطي مَنظرين مختلفين إذا ما قاربناه من زاويتين متقابليتين. والأهمّ أنّ الخطوط المتكسرة لهيكله الحديدي لا تحدث تنافراً مع أحياء بكين الفقيرة.