أرشيف ضخم اشتغل عليه جورج قرم، الكاتب والسياسي والاقتصادي، تخليداً لمسيرة والده التشكيلي، وصراعه من أجل الحركة الفنيّة والثقافة اللبنانيّة بعد الاستقلال
زينب مرعي
بعد الحرب العالميّة الأولى، كان جورج داود قرم (1896ــــ 1971) واحداً من بين قلّة من اللبنانيين الذين كرّسوا حياتهم للفنّ. إبحاره إلى باريس عام 1919 لدراسة التشكيل في «المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة»، كان أمراً غير اعتيادي حينها. لكنه في المقابل، كان أمراً منطقياً في عائلة قرم، التي درس فيها الأب داود (1852ـــــ1930) الفن في روما، وهو من روّاد الرسم في لبنان... وكان الابن البكر في العائلة الشاعر شارل قرم، صاحب «المجلة الفينيقيّة» وديوان «الجبل الملهم». أما جورج، الابن الثاني في العائلة، فكان مع أبيه داود، من الرسامين الطليعيّين في لبنان على مفترق قرنين.
وهذا التاريخ العريق، الحافل بالإنجازات والعطاء، الذي اقترن باسم التشكيلي جورج داود قرم، يسلّط عليه الضوء اليوم، كتاب فنّي أنيق وموثّق، اشتغل عليه الكاتب والسياسي والاقتصادي والوزير السابق جورج قرم، ابن التشكيلي الراحل، وصدر عن «منشورات جامعة الروح القدس ـــــ الكسليك»، بعنوان: «أرشيف التشكيلي جورج داود قرم بين 1915 و1971ـــــ صراع من أجل الفنون والثقافة في لبنان». إلى جانب المادة الأرشيفيّة والفنيّة الغنيّة، يتضمّن الكتاب ما كتبه قرم في الصحافة عن الفنون، ومراسلاته، ونشاطه لإحياء الثقافة في لبنان، وبعض المقالات والدراسات التي كُتِبت عن أعماله.
لا شكّ في أن قرم الأب الذي دخل معترك الفنون مستنداً إلى موهبته، ومشفوعاً بالحظ في آن، كان واحداً من قلائل عملوا جاهدين على تعبيد الطريق للأجيال اللاّحقة. لقد أسهم في إنشاء المتحف الوطني، والمعهد الوطني للموسيقى مع الموسيقي وديع صبرا، وقدّم مشاريع عدّة إلى الحكومة لإنشاء معهد للرسم والفنون. هذا إضافة إلى دوره في تحويل «فيلا سرسق» إلى متحف للفنون.
نضال جورج داود قرم لم يتوقف هنا. لقد كان دوماً حاضراً في الصفوف الأماميّة للدفاع عن الفنان اللبناني. استنكر استبعاد النحّات يوسف الحويك عن المشاركة في مسابقة إنجاز تمثال الشهداء في ساحة البرج التي فاز فيها يومها الإيطالي مازاكوراتي. وأثار نقاشاً طويلاً على صفحات الجرائد، حين كتب التشكيلي الفرنسي جورج سير خلال إقامته في لبنان، عن غياب الفنّ اللبناني.
والدفاع عن الفن في لبنان، اقترن أحياناً لدى هذا الأب المؤسس بعصبيّة «لبنانيّة»، مبررة ذلك الوقت في سياقها السياسي والتاريخي. كان يرفض مثلاً أن تتأثّر الفنون والهندسة المحليّة، بالفنّ العربي. واعترض على تمثال الشهداء الذي صمّمه مازاكوراتي، لأنّه ـــــ برأيه ـــــ يفتقر إلى الحسّ الإبداعي، بما أنّه يشبه التماثيل التي تزيّن ساحات أوروبا، ويفتقر إلى الخصوصيّة اللبنانيّة. يمكن تبرير رفض قرم لأي وصمة خارجيّة على الفن اللبناني بالمرحلة السياسية التي كان يمرّ بها البلد حينها، أي فترة إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920، ثم الاستقلال عام 1943 وبحث اللبنانيين حينها عن هوية لا تربطهم بالدول المجاورة أو الانتداب الفرنسي.
رأى قرم أنّ في هندسة البيوت اللبنانية روح الفن اللبناني، أي البساطة. بساطة لا تخلو من الجمال، ويجب الارتكاز على هذه النقطة لتطوير هذا الفن. لكنّ قرم نفسه الذي درس في فرنسا بين 1919 و1921، كان شديد التأثر بالنهضة الأوروبيّة، وخصوصاً بكلاسيكيّة الفنون في تلك الفترة. وجاء أسلوبه كلاسيكياً، فاحترم في لوحاته النموذج الأصلي. إلى جانب رسمه الطبيعة اللبنانيّة والمصريّة، إذ عاش في القاهرة بين 1930 و1955 ورسم الطبيعة الصامتة والبورتريه.

الكلاسيكيّة هي كلمة السرّ لولوج تاريخ هذا الفنّان الرائد وثقافته وفكره وإنتاجه

ربط على طريقته، بين الفن والأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة. وعرف بمواقف قد تثير اليوم الاستنكار، أو الاستغراب. لكن الرجل ابن طبقته وجيله وثقافته: لقد رأى مثلاً أنّ التيارات الفنيّة مثل التكعيبيّة والتجريدية والوحشيّة... أتت نتيجةً للماركسيّة التي جرّدت الإنسان من روحه، وأيضاً نتيجة الفكر الاستهلاكي الذي كانت الولايات المتحدة تروّج له. إن الكلاسيكيّة التي يمكن عدّها كلمة السرّ لولوج تاريخ هذا الرائد وثقافته وإنتاجه، حالت دون تقبّله تلك المدارس الفنية الحديثة... كذلك رفض غياب الموضوع عن اللوحة، وخصوصاً في التجريد.
يبقى أن نشير إلى مسألة أساسيّة: إن «أرشيف التشكيلي جورج داود قرم بين 1915 و1971 ـــــ صراع من أجل الفنون والثقافة في لبنان» ليس سيرة رائد من روّاد الفنّ اللبناني فحسب، بل ثمرة جهد أرشيفي مضن، يضيء على تاريخ تلك المرحلة في لبنان. ويأتي ليستكمل مؤلفاً آخر للكاتب نفسه، بعنوان «جورج داود قرم» (مكتبة أنطوان)، صدر في بيروت قبل ثلاثة أعوام.


وضع الفنان اللبناني

تمثّل مقالات جورج داود قرم ومراسلاته، نافذة على وضع الفنان والمثقّف اللبناني منذ بداية القرن العشرين حتى أواسطه. منذ نشوء دولة لبنان الكبير (1920)، مروراً بالاستقلال (1943) وفترة «الازدهار» التي عرفتها الدولة اللبنانية في خمسينيّات القرن وستينياته، والملّفات الثقافيّة لا تظهر على جدول أعمال الدولة. صراع خاضه قرم ليجَابَه دوماً بمقولة إنّ الملفات الأخرى أهم. ويكتب التشكيلي في إحدى مقالاته إنّ ميزانيّة الدولة المخصّصة للفنون في منتصف الخمسينيات، لا تتجاوز 0,0002%. في المقابل، يطرح قرم إمكان الإفادة من بيع أسطوانات فيروز وصباح، ومن حقوق المؤلف من خلال بيع كتب جبران خليل جبران. لكن لم يلتفت أحد إلى اقتراحاته، وبقي قرم يتحسّر على وضع الفنان اللبناني، الذي يضطر إلى الهجرة كجبران، أو أن يستقر في لبنان ليعاني إهمال الدولة وانفضاض الجمهور عنه، أمثال الموسيقيَّين أنيس فليحان ووديع صبرا.