عبق المختبر المسرحي السوري يفوح من ربيع بيروت. عودة إلى نص مروجيك الشهير، كما أخرجه سامر عمران، ومثّله مع محمد آل رشّي على خشبة «دوار الشمس»
حسين بن حمزة
يدوم عرض «المهاجران» الذي يحمل توقيع المخرج السوري سامر عمران، ثلاث ساعات تقريباً، ولكن ذلك لا يُشعرنا بالضجر. لماذا نضجر إذا كان كل شيء في العرض مصنوعاً بشغفٍ وذكاءٍ قادرَيْن على نقل العدوى إلينا. نص الكاتب البولوني سلافومير مروجيك (1930)، مثل معظم نصوصه الأخرى، غني وجذاب ومكتظ بالتفاصيل التي غالباً ما تؤول إلى نهاياتٍ غير متوقعة. إنها حكاية مُهاجرَيْن، مثقف متنوِّر (سامر عمران) وعامل أمّي (محمد آل رشي)، يتقاسمان قبواً ضيقاً وبائساً في الغربة. الأول هارب من الاستبداد والقمع، بينما اغترب الثاني بأمل العودة بمبلغٍ يساعده على تحسين وضعه المعيشي...
العرض الذي شاهدناه على خشبة «مسرح دوار الشمس» ضمن فعاليات «مهرجان الربيع»، يبدأ بدخول العامل إلى القبو، راوياً للمثقف الممدّد على سريره مغامراته المتوهَّمة في محطة القطارات. نعرف لاحقاً أنها ليلة رأس السنة. ونعرف أن العامل يعيش على حساب شريكه المثقف. من خلال الحوار المليء بلحظاتٍ كثيرة من سوء التفاهم بسبب اللغة المثقفة والمتعالية للأول والمعجم البسيط للثاني. يقول لنا مروجيك إنّ الأول موجود في المنفى بسبب الثاني الذي يتحول تدريجاً إلى مادة أو ذريعة لكشف العلاقة الملتبسة التي تربط بين الاثنين. إنّهما عالقان هنا كما كانا عالقين في بلدهما الأصلي. هرب الأول ليكتب بحرية عن ديكتاتورية بلده، لكنه يكتشف لاجدوى الفكرة ما دام الثاني وأمثاله خائفين وخانعين وغير راغبين في الخلاص. هكذا، يفشل المثقف في كتابة ما مُنع من كتابته وهو في وطنه، متهماً شريكه بمزاولة أعمال شاقة واستعبادية بهدف جمع المال فقط. وحين يعي الثاني ـــــ للحظات ـــــ حقيقة صورته، ويمزِّق الأموال لنفي التهمة

العرض مدينٌ للنص أولاً، ولنسخته المرنة بالمحكية السورية
عنه، يحاول الأول منعه، لأن انقلاب حال الشريك ضحية للخنوع سيُفسد فكرة كتابه، وبالتالي فكرة وجوده كلها في المنفى. في النهاية، يقتنع الاثنان بأنّ العودة لم تعد ممكنة. يستسلمان للنوم، بانتظار يوم جديد سيشهد على الأرجح صراعاً مماثلاً. ما سبق ليس سوى خلاصات، غير كافية للإحاطة بالحوار العميق والشائك والعنيف الذي يدور في العرض. الشرط المسرحي الذي جمع فيه المؤلف شخصيتيه يتكشَّف عن حزمة هائلة من المعطيات الواقعية والحياتية القاسية. فنّ مروجيك المسرحي موجود هنا. خلق إيحاءاتٍ أولية بالعبث واللامعقول، ثم نقل كل ذلك إلى منصة سياسية واجتماعية ملتهبة. في لحظات عديدة، نحس أننا في عرضٍ لبيكيت أو أداموف أو يونيسكو، لكنّ المزاج العبثي لا يكفُّ عن تلقّي جرعاتٍ كبيرة من كوابيس الواقع وشراسته. كأن المهاجرين هما استراغون وفلاديمير في انتظار غودو، لكنهما يعيشان كحشرتين في قبوٍ حقير، بدلاً من الانتظار تحت شجرة بيكيت الشهيرة.
العرض مدينٌ للنص أولاً، وللنسخة الذكية والمرنة التي كُتب بها بالمحكية السورية (أسامة غنم)، وللأداء الأخَّاذ للممثلين، وخصوصاً آل رشي الذي تولَّى إمتاعنا طيلة العرض بحيويته ورشاقته في الانتقال من حالة إلى أخرى.