الاستراتيجية الأميركية استخدمت الجهادية الإسلامية في معركتها لاحتواء العالم، وتعزيز نفوذها في الخليج العائم على النفط. هذا ما يخلص إليه الباحث السوداني الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد في كتابه الصادر عن «دار الساقي»، بعنوان «جذور المأزق الأصولي»
ريتا فرج
لم تأتِ نبوءة الباحث الفرنسي أوليفييه روا (1949) حول فشل الإسلام السياسي من إطار نظري بعيد عن الواقع. انسدادات الإسلامويين من جهاديين وسلفيين تشي بصحة فرضيته. وإذا كان السياق العقائدي المغلق الذي يستند إليه هؤلاء، يمثّل المدماك الأولي لفشلهم من المحيط الى الخليج، فإنّ علاقتهم بالأنظمة والمجتمع لم تكن أقل اضطراباً. ولعل العاملين المشار إليهما يحدّدان الإشكاليات التي يتطرق إليها المفكّر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد (1941 ــــ 2003) في كتابه «جذور المأزق الأصولي»، وهو من سلسلة مخطوطات لم تنشر في حياته، صدرت أخيراً عن «دار الساقي» في بيروت.
بداية، يشير الكاتب الى الإطار العلائقي بين الجهادية الإسلامية والولايات المتحدة، بدءاً بما يسمّيه «الفخ الأفغاني» الذي أسهم في محاصرة الاتحاد السوفياتي من الداخل، وصولاً الى تفجيرات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر). ويخلص الى أنّ الاستراتيجية الأميركية عملت على توظيف الجهادية الإسلامية في معركتها لاحتواء العالم، كي تعزّز نفوذها في الخليج العائم على بحر من النفط، كما وصفه ونستون تشرشل في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وما إن تهاوت محددات الشراكة الملتبسة حتى تحوّل الأفغان العرب وإخوانهم الى العنف الداخلي تجاه المجتمع والأنظمة.
لكنّ حمد يُحيل تعثر الإصلاح الى السياسات الدولية، متناسياً أن للعرب مآزقهم. وما الأصولية التي يُحيلها الى المخطط الأميركي إلا نتاج لأزمة بنيوية في مجتمعاتنا. ورغم أن الجهاديين المعاصرين العابرين للقارات، يرهبون «أعداء الله» باسم الإسلام حيناً، ومحاربة الشيوعية حيناً آخر، فإنّ «بيغ بانغ» الحركات الإسلاموية يتعدى الحقبات التي حدّدها المؤلف. لنستمع إلى حسن البنا، مؤسس حركة الإخوان المسلمين في مصر، يصرخ بأعلى صوته عام 1928: «الإسلام دين ودولة، مصحف وسيف». علماً بأنّ الدعوة الوهابية، الشديدة التأثر بفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، كان لها الأسبقية التاريخية من حيث النشأة.
في سياق تعقّبه لجذور المأزق الأصولي، يستشهد الكاتب بالتحولات العالمية التي دفعت واشنطن إلى التعاون مع حركة «طالبان»، عشية انهيار المنظومة الشيوعية.
تعرية الخطاب الأصولي ومآزقه، في ضوء عوامل تاريخية وسياسية مختلفة
ويرى أنّ غايتها تحقيق هيمنتها الأحادية على العالم. وتأتي الشراكة مع الجهاديين الأفغان ضمن سلّة أهداف ترمي الى توطيد النظام العالمي الجديد، القائم على الرابط العضوي للاقتصادات العالمية أولاً، والتفرد بالقرار الدولي ثانياً، واستنزاف الإسلام في معارك واشنطن المتمادية ضد الإرهاب لاحقاً... وذلك بعدما وجد البيت الأبيض ضالته في أسطورة بن لادن لتبرير استراتيجياته.
لكن الإدارة الأميركية التي يصفها جاك دريدا بأنّها الدولة المارقة الأولى حين هجس بأن مشهد 11 أيلول سيكون مسرحاً عنيفاً للرؤى التي تداعب الخيال، أدركت جيداً حجم التضحيات المطلوبة منها، حتى لو اضطرت الى التضحية بعدد لا يستهان به من مواطنيها. وتجدر الإشارة، إلى أن الباحث السوداني الراحل يجزم، في كتابه، بأنّ الاستخبارات الأميركية كانت على علم بهذه التفجيرات (!)
حين يصل القارئ الى الفصل الثالث من الكتاب، يشعر بأنه عاين المشتهى. تحت عنوان «جذور المأزق الأصولي: فقهاء الأنظمة أخطر من الأصوليين»، يتخذ الكاتب أنموذجين لمعالجة طروحاته: السلفية الوهابية والإخوانية المصرية. ويستنتج بأن «فقهاء الأنظمة يجمعون بين تبعيتهم للأنظمة، واستمدادهم لفكر ديني غير متجدد تجمعهم فيه قواسم مشتركة مع الأصوليين أنفسهم»، مؤكداً أن خطرهم أشد من الحركات الأصولية لأنهم يمنعون الكتابات التجديدية «التي من شأنها دكّ» الأيديولوجيات الإسلاموية.
ومن جديد، يعود الكاتب الى المأزق الأصولي في السعودية، محدداً مراحل صدامه مع العائلة المالكة، بدءاً من انفجار 1926، وصولاً الى مذكرة النصيحة عام 1991.
ورغم نقده للدوغمائية السلفية الوهابية، فقد تغافل محمد أبو القاسم حاج حمد عن الجوامع التي تربطها بآل سعود، ولم يطرح قراءة تحليلية لجدلية هذه الروابط. إذ إنّ المملكة غير قادرة على الانفصال عن الفقهاء منذ اتفاق الدرعية التاريخي، فيما يرتبط الفقهاء بالسلطة عبر جملة من المصالح الدينية والسياسية. وهنا نتساءل، أيهما أقوى؟ الديني أم السياسي في السعودية؟
ثلاث محطات أساسية، أدت ــــ كما يشير الكاتب ــــ الى الانبعاث الأصولي: الأولى هي التوجه الإصلاحي الليبرالي، ومن رواده محمد عبده ورشيد رضا. الثانية هي التوجه الثوري بشقيه القومي والماركسي. والثالثة هي حالة الفراغ الأيديولوجي، والصعود الديني المتطرف منذ بداية السبعينيات. هنا، يعرّي حمد الخطاب الأصولي وانسداداته، متوقّفاً عند العوامل التاريخية والسياسية التي أدت الى سطوته، إثر تراجع المدّ الناصري، ما أتاح للأصوليين مساحة أرحب وخصوصاً في السعودية. هكذا، بدأت هذه الأخيرة بتجنيسهم، وسمحت لهم بإنشاء المصارف الإسلامية.
أما إيران الثورة، فعملت أيضاً على استقطاب تلك التيارات لتأمين الحد الأدنى من التوازن الإقليمي بوجه الرياض، رافعة الوهابية. إذ إنّ الشيعية السياسية التي بلغت ذروة رهاناتها على وقع المقاومات، والفراغ الإقليمي اللافت على مستوى الملفات العربية، دخلت في المأزق نفسه أقلّه منذ الثورة الخضراء الناشئة على حطام انكسار مشروع الإصلاحيين.
في الختام، يقدم محمد حاج حمد وجهة نظر استقرائية لانسدادات العالم العربي، معتبراً أن دورته الحضارية لم تكتمل: «فالفهم الخاطئ للانهيار الراهن هو في الحقيقة» نمط «من صور التحول التاريخي لعهد جديد». ولعلّ الكاتب مصيب في تحليله هذا. صحيح أن الإسلام العربي لم يُكمل دورته الحضارية، وصحيح أن المجتمعات العربية تمر بحقبات من الأمراض، كما ذهب العلّامة ابن خلدون، وصحيح أن الحداثة تسلك طريقها ببطء شديد داخل كيانات سياسية، لم تفلح حتى اللحظة في بناء دولة حديثة.
ويبقى السؤال المركزي: بعدما وصلت الإمبراطورية الإسلامية الى ذروة تمددها خارج مجالها الجغرافي، وانكفأت الى الداخل، ما الذي أوقفها عن متابعة مسيرة تطورها داخل ديارها المترامية أسوة بالإمبراطوريات الأخرى التي مرت بالازدهار فالتمدد فالانكفاء نحو الهوية، من دون أن يمنعها ذلك من تطوير بناها المجتمعية والثقافية والسياسية؟ ربّما كان نمط العنف السياسي، أو البدوقراطية التي تحدث عنها ابن خلدون بعد صولاته وجولاته في بوادي العرب، يقدّم مشروع جواب عن هذا التساؤل.