عثمان تزغارتالحفاوة التي استقبلت بها الأوساط السينمائية عودة «سينما الجنوب» بقوة في هذه الدورة من «كان»، لم تحصّن هذه الأفلام من زوابع النقد والجدل السياسي. الجميع يرتقب ما سيقوله السينمائي الإيراني الكبير عباس كياروستامي عن الأوضاع في بلاده، وعن الأسباب التي دفعته إلى المغادرة إلى المنفى، ليصور أول فيلم له تدور أحداثه بعيداً عن إيران.
وكان صاحب «مذاق الكرز» قد قرّر المغادرة إلى إيطاليا، قبل أشهر طويلة من انفجار الأزمة بين الإصلاحيين والمحافظين في إيران، على خلفية الجدل الذي أحاط بإعادة انتخاب الرئيس أحمدي نجاد في حزيران (يونيو) الماضي.
بخلاف سينمائيين آخرين، من أمثال محسن مخملباف، وابنته سميرة، وجعفر بناهي، المسجون حالياً في طهران (كان يُفترض أن يكون ضمن أعضاء لجنة تحكيم هذه الدورة) وغيرهم من الفنانين الإيرانيين الذين أشهروا تأييدهم لـ«انتفاضة الشباب الإيراني»... التزم كياروستامي الصمت. رغم نضالاته المعروفة، منذ ربع قرن، من أجل الحريات في إيران، إلا أن المعروف عنه أنه يكتفي بالتعبير عن آرائه في أعماله. لذا، ترتقب الكروازيت بفارغ الصبر ما سيقوله في هذا الشأن. وإذا تحصّن ـــــ كالعادة ـــــ وراء نظاراته السوداء، ورفض التعليق على ما يحدث في بلاده، فإن الأنظار ستتجه إلى فيلمه، بحثاً عن أي تلميح يمكن تفسيره بأنه موقف من الأحداث التي تشهدها إيران.
إلى جانب هذا، فإن سينمائياً جنوبياً آخر يواجه موجات متصاعدة من الانتقاد، رغم أنه لا أحد شاهد فيلمه، هو الجزائري رشيد بوشارب الذي نال فيلمه «بلديون» الإجماع في فرنسا بسبب تثمينه لنضالات المجندين المغاربيين في الجيوش الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية. لكن جديده «الخارجون على القانون» الذي يصور انخراط أبطال «بلديون» لاحقاً في الكفاح الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، ألّب عليه الطبقة السياسة الفرنسية.
بدأت الضجة حين سرّبت وكالة الأنباء الفرنسية مضمون تقرير لـ«لجنة التاريخ» في وزارة الدفاع الفرنسية، يعدّ «الخارجون على القانون» تزويراً للتاريخ، رغم أن تلك اللجنة العسكرية لم تشاهد الفيلم، بل حصلت على نسخة غير مكتملة من السيناريو. سرعان ما تلقفت مواقع اليمين المتطرف الفرنسي على الإنترنت هذه القضية، وعملت على تصعيد الحملة على بوشارب. وإذا بنائب برلماني من الأغلبية الرئاسية، هو ليونيل لوكا، يركب الموجة، رافعاً عريضة إلى البرلمان الفرنسي تطالب بسحب الفيلم من «كان»! وفيما تفادى وزير الثقافة، فريدريك ميتران، الوقوع في فخ هذه المكارثية، مكتفياً بالقول إنّه لا يستطيع الحكم على فيلم لم يشاهده، جاءت المفاجأة من قصر الإليزيه. إذ طلب الرئيس ساركوزي من منتج الفيلم تنظيم عرض خاص في قصر الرئاسة قبل ذهاب الفيلم إلى الكروازيت! لكن منتج «الخارجون على القانون»، جون بريا، رفض طلب الإليزيه، وردّ على مستشاري الرئيس قائلاً إنّ «من يريد مشاهدة الفيلم، أياً كان، فما عليه سوى أن يأتي إلى الكروازيت».
على الضفة الأخرى للمتوسط، ضجت الصحف الجزائرية بانتقاد هذه الهجمة على رشيد بوشارب وفيلمه. لكن الصحف ذاته تفرك أصابعها، منذ أسابيع، ترقباً للتصدي لفيلم «بشر وآلهة» لاكزافييه بوفوا، لأنه قد يتطرق لما يثار منذ سنوات من شكوك بخصوص تورط أجهزة الأمن العسكري الجزائري في مقتل رهبان «تيبحيرين» المختطفين من الجماعة الإسلامية المسلحة. وهي شكوك رجّحتها شهادات العديد من الدبلوماسيين والضباط الجزائريين المنشقين. لكن الأوساط السياسية والإعلامية الجزائرية تتمسك بالرواية الرسمية التي تزعم أن الرهبان خطفوا وقُتلوا من المتطرفين الإسلاميين. لذا، يمكن القول إنّ المكارثية والنظرات الاختزالية لتاريخ حربي الجزائر (الأولى والثانية) تتوزع بالتساوي بين ضفتي المتوسط!
قد لا يفلت فيلم جنوبي آخر يشارك في المسابقة من هذا الجدل السياسي، وهو فيلم التشادي محمد صالح هارون «رجل يصرخ...»، وهو عنوان مقتبس عن قصيدة إيمي سيزير الشهيرة «رجل يصرخ ليس دبّاً يرقص». يروي الفيلم قصة أب تشادي وابنه يسرّحان من العمل إثر بيع الفندق الفاخر الذي يشتغلان فيه لمستثمرين صينيين. عبر هذه القصة، يقدّم الفيلم صورة غير مسبوقة للإمبريالية الصينية الناشئة في القارة السوداء.
ولعل الفيلم الجنوبي الوحيد الذي سيكون بمنأى عن الجدل هو «الحياة قبل كل شيء» للجنوب ــــ أفريقي أوليفر شميتز، الذي يُعَدّ من الأقطاب التاريخيين لحركة محاربة الأبارتايد. وهو فيلم عن التآخي والمصالحة في جنوب أفريقيا بعد انهيار نظام التفرقة العنصرية...