تتوزّع أفلام الدورة الـ63 على توجّهين أساسيين: الأوّل ذاتي ينتمي إلى سينما المؤلّف، والآخر تاريخي يتّخذ من الماضي مادة لمقاربة الراهن... بين هذا ذاك، تحضر الأزمة المالية في أعمال تبشّر بثورة مقبلة للتخلّص من النظام الليبرالي المتهالك
كان (جنوب فرنسا) ــ عثمان تزغارت
«مهرجان كان السينمائي» الذي تفتتح دورته الـ63 بعد غد الأربعاء، يكاد يمثّّل دليلاً قاطعاً على أن الفنّ السابع مؤهّل لتجاوز الأزمة المالية العالمية، وانعكاساتها على الإنتاج السينمائي. وفيما أُعلن وقف تصوير فيلم «جيمس بوند» الجديد بسبب الأزمة التي تتخبّط فيها استوديوهات MGM، وهي أحد أبرز رموز هوليوود... استطاع المهرجان الفرنسي العريق أن يلمّ ثلّة من أبرز صنّاع السينما العالمية، من ريدلي سكوت إلى وودي ألن، ومن أوليفر ستون إلى عباس كياروستامي، مروراً بأليخاندرو غونزاليس إيناريتو، ومايك لي، وتاكيشي كيتانو، ونيكيتا ميخالكوف، وجان ـــــ لوك غودار، وستيفن فريرز، ومانويل دي أوليفيرا.
هذه السنة، يقدّم المهرجان برنامجاً رسمياً منوّعاً وثرياً، يبشّر روّاد «الكروازيت» بواحدة من أخصب الدورات، ويثبت مرة أخرى أنّ «كان» ما زال يستحق لقب «قلعة سينما المؤلف». ولعل الميزة الأساسية لأفلام هذه البرمجة، أنها تتطلّع إلى جس نبض المرحلة، وتسلّط نظرات قلقة، محاولة رصد «الخلل» الذي أصاب «العالم المتحضّر» جرّاء الهجمة الليبرالية المتوحشة. هذه الهجمة التي أسفرت عن الأزمة المالية التي ما زالت تبعاتها تتفاعل وتتفاقم، رغم تطمينات أنصار «أخلقة الرأسمالية».
لتسليط الضوء على هذه «الخديعة» الليبرالية الجديدة، يعود الأميركي المشاكس أوليفر ستون، على خطى شبابه، ليقدّم تتمة لأحد أشهر أفلامه: «وول ستريت» (1987). يستعيد النجم تشارلي شين هنا دور باد فوكس، اختصاصي المضاربة في البورصة الذي صنع شهرته قبل ربع قرن. أما النجم مايكل دوغلاس، فيعود لتقمّص شخصية رجل الأعمال الفاسد غوردن غيكو الذي سُجن في نهاية الجزء الأول من الفيلم. ونكتشف هنا، بعد ربع قرن، أن أسوار السجن لم تمنعه من الاستمرار بالاتجار غير الشرعي والمضاربة، إذ إنّ المال لا يجب أن ينام، كما تقول الحكمة الليبرالية الشهيرة التي يستعيرها ستون عنواناً فرعياً لهذا الجزء الثاني من فيلمه (خارج المسابقة) على سبيل السخرية، وللتلميح إلى أن المال لا ينام أبداً، لكن الأزمة الأخيرة أثبتت أنه قد يتبخّر بلا رجعة!
أما ريدلي سكوت الذي يُعرض فيلمه في افتتاح المهرجان، فيستعير أسطورة «روبن هود»، قاطع الطرق النبيل الذي يسرق الأثرياء ليعطي الفقراء. ولا يكتفي صاحب «سقوط الصقر الأسود» (2002) باستعمال رمزية روبن هود لتشريح أسباب الأزمة العالمية الراهنة. بل يقدّم مقارنة مثيرة بين الملك الإنكليزي جون (1166 ـــــ 1216)، والرئيس الأميركي باراك أوباما. فـ«الملك جون» ورث عن والده الملك ريتشارد الأول «قلب الأسد» بلداً على حافة الحرب الأهلية وشبه مفلس، بسبب غزوات «قلب الأسد» الصليبية. ويقارن سكوت ذلك بالإرث المثقل بالهزائم والأزمات الذي ورثه أوباما عن خلفه جورج بوش. من هنا، يسعى صاحب «أكاذيب دولة» إلى استشراف الثورة المرتقبة التي تتفاعل بوادرها في أتون الأزمة المالية الحالية، عبر استعادة الدوافع التي تقف وراء تمرد روبن هود، رغم أن الملك جون كان ـــــ على غرار أوباما ـــــ «مسكوناً بالأفكار الخيّرة والنيّات الحسنة» كما يقول سكوت في حوار لمجلة «نوفيل أوبسرفاتور» الفرنسية.
أزمة النظام الرأسمالي هي أيضاً التيمة المحوريّة لجديد جان ـــــ لوك غودار. وهل من دليل أكبر على «شباب» رائد «الموجة الجديدة» الفرنسية، من أن فيلمه «اشتراكية ـــــ فيلم»، يُعرض، مثل شريط أوليفييرا، ضمن تظاهرة «نظرة ما» المفتوحة غالباً للتجارب الشابة أو المغايرة؟ وإمعاناً في تحدي الإستبلشمنت الرأسمالي الذي يتحكّم في صناعة السينما، قرّر صاحب «بيارو المجنون» (1965) طرح عمله للمشاهدة بطريقة شبه مجانية على الإنترنت، بالتزامن مع عرضه في «كان»!
لكن الحضور البارز للثلاثي ستون ـــــ سكوت ـــــ غودار، لا يعني أن الدورة ستقتصر على السياسة! الباقة الرسمية لـ«كان»، سواء الأفلام الـ20 التي تتنافس على «السعفة الذهبية»، أو تلك التي تُعرض خارج المسابقة، يتنازعها توجهان أساسيان: أعمال حميمة تنتمي إلى سينما المؤلف على اختلاف توجهاتها ورموزها من جهة، وأفلام تاريخية من الجهة الأخرى، تستعيد الماضي مرآة لفهم الراهن واستشراف المستقبل.
ضمن الفئة الأولى نجد العمل الجديد للمعلم الإيراني عباس كياروستامي الذي يدخل مجدداً السباق على السعفة الذهبية بعد تكريس فيلمه «مذاق الكرز» عام 1997. في شريطه الجديد «صورة طبق الأصل»، يصوّر كياروستامي ـــــ لأول مرة ـــــ فيلماً تدور أحداثه بعيداً عن بلاده وبلغة غير لغته، ويروي قصة حب إشكالية بين صاحبة غاليري فني إيطالية في فلورانس (جوليت بينوش) وكاتب بريطاني (ويليام شيمل).
وضمن المسابقة، يقدّم المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو عمله الروائي الرابع بعد «الحب كلب» و«21 غراماً» و«بابل». وقد كانت هذه الأعمال الثلاثة كافية لتكريس إيناريتو ضمن كبار صنّاع السينما العالمية، بفضل أسلوبه المبتكر في حبك الأواصر الخفية، والمصائر المتشابكة، لشخصيات متباعدة في الظاهر، تبدو كأن لا رابط بينها. في Biuttiful، يصوّر إيناريتو قصة ضابط شرطة إسباني (خافيير بارديم) يكتشف أنّ تاجر المخدرات المرعب الذي يطارده، منذ سنين، ليس سوى واحد من أصدقاء طفولته!

«روبن هود» يتمرّد على أوباما، ... وجان ــ لوك غودار يهزأ بالرأسمالية و«إستبلشمنت» الفنّ السابع
ضمن هذه «الموجة الحميمة»، نجد في المسابقة جديد مايك لي «عام آخر»، وتاكيشي كيتانو «استفزاز»، وباكورة الفرنسي ماتيو أمالريك الذي قفز إلى واجهة النجومية العالمية ممثّلاً، بفضل أدائه المبهر في رائعة جوليان شنابل «الفراشة وبذلة الغطس» (2006). وهو يقف هنا وراء الكاميرا لأول مرة، ليقدّم فيلماً واعداً بعنوان «جولة». وتضاف إلى هذه الموجة الحميمة أفلام أخرى خارج المسابقة، مثل «ستلتقي بغريب طويل غامض» لوودي ألن، و«تامارا درو» لستيفن فريرز.
أما الأفلام التاريخية فتتضمن (إلى جانب فيلم الافتتاح «روبن هود») جديد السينمائي الروسي الكبير نيكيتا ميخالكوف «الشمس المخادعة 2» الذي يستكمل فيلماً بالعنوان ذاته قدّمه سنة 1994، وصوّر فيه اليد الحديدية الستالينية التي أطبقت على الاتحاد السوفياتي في الثلاثينيات. وقد أثار هذا الشريط الجديد جدلاً في روسيا، إذ انتُقدت الصورة التي رصد بها ميخالكوف أحوال الجيش الروسي خلال الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الثانية.
أما الجزائري رشيد بوشارب (راجع الصفحة المقابلة)، فيقدّم جديده «الخارجون على القانون» (ضمن المسابقة ـــــ راجع مقالاً آخر في الصفحة) حيث يبدأ من حيث انتهى في فيلمه الشهير «بلديون». بعد الإسهام في تحرير فرنسا من النازية، ينخرط أبطاله في النضال الوطني من أجل التحرر، ويؤسّسون شبكة موالية للثورة الجزائرية في فرنسا.
ويتجاور هذا الفيلم الذي يصوّر جانباً من «حرب الجزائر»، مع فيلم آخر في المسابقة الرسمية هو «بشر وآلهة» للفرنسي كزافييه بوفوا، يتناول إحدى الجرائم الأكثر بشاعة في «حرب الجزائر الثانية»، خلال سنوات الإرهاب في التسعينيات، وهي ذبح سبعة رهبان في دير «تيبحيرين» الشهير، قرب مدينة المدية، جنوبي غربي العاصمة الجزائرية.


«مهرجان كان السينمائي الدولي» في دورته السادسة والثلاثين يحتضن أيضاً جديد المعلم البرتغالي مانويل دي أوليفيرا (1908 ــ الصورة). وكان المهرجان الفرنسي العريق احتفل في العام الماضي بعيد ميلاده المئة. وها هو دي أوليفيرا يعود في شريط جديد يحمل عنوان «حالة أنجليكا الغريبة» الذي سيعرض ضمن تظاهرة «نظرة ما». في هذا الفيلم، يستعيد دي أوليفيرا تجربة شخصية عاشها هذ السينمائي بعد موت إحدى قريباته.