يرسم منصور الهبر (1970) المرئيات والأحداث والمشاهد التي تحدث حوله وفي محيطه القريب. إنها حالات وتأملات سريعة معاشة بمزاج شخصي قبل أن تتحول إلى رسومات منجزة بقوة الارتجال وحدها تقريباً. نكاد لا نرى شيئاً أبعد من ذلك في شغل الرسام اللبناني الذي افتُتح معرضه في «غاليري جانين ربيز» تحت عنوان «حياة منزلية».
العنوان يبدو مثل استعارة كبرى توّحد الانطباعات التي تبثها اللوحات التي تتألف من عناصر وتفاصيل ويوميات منزلية فعلاً. أشخاص اللوحات يحضرون في وضعياتهم المنزلية العادية، بينما الرسم يحوّل ذلك إلى عملٍ فني تتأرّخ فيه تلك اللحظات العابرة وتحصل على نوع من الخلود. الرسم يمنح ما هو عابر ومهمل ومكرور فرصة أن يصير شيئاً جوهرياً، وأن يحتفظ في الوقت نفسه بقيمته الهشّة والزائلة. هذا التوصيف يقرِّب الرسم من الكتابة. كأن منصور الهبر يدوِّن هذه المشهديات ويلتقطها ويُثبّتها قبل أن تزول أو تتغير الحالة الجسدية لأشخاص اللوحات. يشبه ذلك مقطعاً للشاعرة البولونية فيسوافا شيمبورسكا تقول فيه: «في وصف الغيوم/ عليّ أن أُسرع/ فبعد قليل ستكون غيرَهَا». الرسام يراقب ما يحدث أمام نظرته ومخيلته. إنه جزءٌ من المشهد المنزلي، لكنه يراه من الخارج بعين الرسام الذي في داخله، بينما يده مستعدة لمحاكاة أي نأمة جسدية أو أي تغيير طفيف في سينوغرافيا المشهد الذي غالباً ما يكون جلسة عائلية، حيث يمكننا أن نرى شخصاً مستلقياً على كنبة طويلة، وآخر قد يكون امرأة جالسة على كرسي قريب، أو نرى شخصين أو ثلاثة منشغلين بشاشات هواتفهم المحمولة، أو متلذذين باسترخاءات الظهيرة وقيلولاتها، بينما الرسام نفسه يطلّ على المشهد من نفس الزاوية التي سيطلّ منها المتلقي في المعرض. الرسم بقلم الرصاص يوفّر سرعة لائقة بسرعة المشهد، والقياسات الصغيرة للوحات تشير إلى أنها في الأصل اسكتشات مرتجلة، وأن الإضافات اللاحقة، وهي قليلة على أي حال، هي لتكريس المشهد وتوثيقه بجرعات لونية أحياناً، وبملصقات كولاجية تعزز الانطباعات الارتجالية المنبعثة من اللوحة.

الخط والكولاج
هما أساس التأليف
في شغله

الخط والكولاج هما أساس التأليف في شغل الهبر، ولعل الحضور الطويل نسبياً للوحاته المتجاورة مع نصوص وكتابات منشورة في الصحافة الثقافية جعله مكتفياً إلى حد ما بالهاجس الارتجالي والتلقائي للرسم. أما الإضافات التالية فلا تختلف كثيراً عن المكونات الخطّية البسيطة والموهوبة التي تُنجز بها اللوحة. يُحضر الهبر حركةً أو شخصاً من خارج المشهد، ويُلصقه في مساحة شاغرة بين أثاث المنزل وأشخاص لوحته المنزلية. الكولاج يقوّي اللوحة، ويخففها من الهوية المنزلية المسبقة والضيقة. لا يكتفي الرسام بذلك، فهو بالأساس يرسم أشخاص المنزل، ويمحو حدوده كمساحة مكانية محددة. لا نرى في اللوحات جدراناً أو ديكورات كاملة. لا نرى ملامح واضحة لهؤلاء الأشخاص. ما يعرّفنا إليهم هو الوحدة التي يسبح كل واحد منهم في فقاعتها غير المرئية. إنهم معاً ولكنهم على حدة أيضاً. هناك ست لوحات بعنوان «وحدة» في المعرض. لوحات أخرى غير معنونة لا تنجو من انطباعات الوحشة والعزلة. تفوح من هذه اللوحات روائح معاصرة لها صلة بتيارات وتجارب فنية كبرى لعبت على مفاهيم الهوية والحياة المدينية وعزلة الأفراد والمحدودية البشرية وزوالها التدريجي. لوحات منصور الهبر تبدو بسيطة وعفوية وفورية ومنجزة على عجل، ولكنها على صلة قوية بأفكار شديدة المعاصرة. الانشغال بمراقبة ما يحدث، والشغف بتدوين الجزئيات والتفاصيل الصغيرة، يحوّلان الرسم إلى ممارسة وسواسية بالمعنى الإيجابي للكلمة. اللوحات هي تدويناتٌ معاصرة لحياة معاصرة. إنها «قصائد مرئية»، بحسب عنوان مجموعة شعرية لسعدي يوسف. المقارنة مع التدوين والكتابة تعزز فكرة أن شغل منصور الهبر يشبه ما يكتبه شعراء ما سمّي «القصيدة اليومية» أو «قصيدة التفاصيل». هناك غلالة غرافيكية تقوي خطوط قلم الرصاص، وتسند الإكريليك الخافت في بعض اللوحات، بينما البقايا الطّلليّة للخطوط الرصاصية تجعل ذلك كله معرّضاً للخفة والزوال والمحو. الشعر موجود هنا. إنها شعرية التلاشي والعزلة التي تتسع أكثر فأكثر لشخوص اللوحات في حيواتهم المنزلية الحميمة والمعاصرة.


«حياة منزلية» لمنصور الهبر: حتى 23 أيلول (سبتمبر) الحالي - «غاليري جانين ربيز» (الروشة). للاستعلام: 01868290