هناك شيء أو فكرة تسبق إنجاز لوحات أسامة دياب (1977). لا نقصد أن يكون الرسم ارتجالياً بالكامل طبعاً، لكن الرسام الفلسطيني لا يُخفي هذا الانطباع المسبق الصنع في معرضه «ماذا حدث هنا» الذي افتُتح أخيراً في «غاليري أيام». أغلب لوحات المعرض قائمة على التركيب والتأليف واللصق.
الخطوط الأولى والبروفات والاستكشات هي تمهيد لأشغال لاحقة تخضع لفكرة الرسام أو لمفهوم محدد أو لتقنية أسلوبية يفضّل أن تحضر في عمله. الفكرة ليست نظرية أو جافة بل هي ممزوجة بالحالة الراهنة، وعنوان المعرض هو إشارة إلى «ما يحدث» في سوريا التي عاش فيها الرسام كوطن ثانٍ، وما تعرضه الشاشات من مشهديات العنف والقتل والدمار في أمكنة أخرى أيضاً. تكثر الأشلاء في اللوحات المعروضة. الأجساد غير كاملة. اللصق والتركيب يقرّبان مناخ اللوحات من النحت. المذاقات التكعيبية تعزز ذلك من خلال تجسيم الخطوط والأشكال وزيادة الأبعاد الكتلوية فيها. المعرض هو احتجاج ضد الحرب والعنف. الانطلاق من «غرنيكا» بيكاسو الشهيرة يبدو واضحاً كمقترح آني لتوثيق الحرب ورصد تأثيراتها الكبرى على الشعوب، وتأثيراتها المينيمالية على حياة الأفراد ومصائرهم. المنظور التكعيبي يمنح الوجوه والأشكال البشرية نوعاً من العزلة والغربة والخواء والخيبة.
هناك رجل وامرأة في أكثر من لوحة، لكن ما يجمع بينهما هو وردة مستحيلة أو طائر مجروح. المرأة نفسها نراها وحيدة رأسها في قفص والحمامة في الخارج مربوطة بخيط. الحمامة والمرأة ممنوعتان من الطيران والحرية. الحمامة ذاتها نراها مربوطة بخيط في يد الرجل، بينما المرأة فوقه تطير في حركة تذكرنا بطيران شخوص شاغال، باستثناء أن الخرائب التي نتخيلها تحت المرأة والرجل مغيّبة عن اللوحة، وحاضرة في الأسى الكثيف على ملامحهما. هي حمامة السلام الغائب نراها مجدداً فوق رأس رجل وأمامه امرأة ذاهلة. ثم نراها مقتولة على طاولة في لوحة أخرى. هذه العناصر والرموز تحضر مجتمعة في لوحة أكبر تحمل عنوان المعرض نفسه، وتذكّرنا فوراً بلوحة «غرنيكا».

شخوص مكسورون من الداخل، منفيّون أو مقتلعون من أمكنتهم

والأكيد أنّ الحرب هي القاسم المشترك لجلب لوحة بيكاسو في لحظة الأهوال السورية. الأطراف المقطوعة والرؤوس والأجساد النصفية والحمامات المقتولة هي تأويلات مباشرة ومواربة للحرب، بينما طبقة الوحشة والألم المنتشرة بشكل بارد على تلك العناصر تجعل اللوحات صامتة رغم محتوياتها التراجيدية. لعل هذا الصمت هو الإضافة الضرورية التي يُحدثها أسامة دياب في موضوع الحرب كمسألة عمومية ومعروفة. كأن على اللوحات أن تسجّل تأثير الحرب والصراعات التي تمزق الجغرافيا والهويات، ولكن بشرط أن لا تقع في الميلودراما الفجائعية المباشرة. هناك خطاب سياسي في المعرض، ولكنه مترجم على شكل تأويلات ساكنة تذكرنا أحياناً بماغريت وهوبر، ولكن المناخات الساكنة لهما ممزوجة هنا مع الخطوط القاسية لتعبيرات التكعيبية. المفترض أن الشخوص في حالة حركة، إلا أنها مثبّتة في لحظة زمنية ومزاجية محددة. هناك مسحة سوداوية وحزن كثيف وصامت في حضورهم. إنهم مكسورون من الداخل، منفيّون أو مقتلعون من أمكنتهم. «مُذلّون مُهانون» بحسب عنوان رواية لديستويفسكي. الحرب شوّشت طمأنينتهم وأبعدتهم عن حياتهم التي «جرت هنا» قبل أن «تجري الحرب» فوقها.
اللوحات ترسل كل هذه الانطباعات، لكن إحساسنا بأنها حصيلة رسم نظيف ومنفذ بعقلانية مشددة يجعل هذه الانطباعات مربوطة بالتقنية والأسلوبية، ويجعلها أيضاً مادة مكشوفة للزائر والمشاهد. الرسم مشروطٌ بالمنطق المفاهيمي، وما نراه يبدو تنفيذاً جيداً لخطط وأساليب مسبقة. ربما هذا جزءٌ من المناخات المعاصرة التي كسرت المفهوم التقليدي للوحة. هذا تبرير ليس بعيداً عما نراه في معرض أسامة دياب الذي تخرج من كلية الفنون في دمشق عام 2002، وينتمي إلى مجموعة من الأسماء الشابة التي ابتعدت بمسافات متفاوتة عن المحترف السوري التقليدي. لقد دخل هؤلاء في المعاصرة كعنوان يقدم حزمة هائلة من الممارسات الفنية الجديدة التي تُرضي طموحاتهم، ولكنهم صاروا «أسرى» لأساليب وهويات مرغوبة في سوق الفن المعاصر. السوق تصنع ما هو رائج، وتضغط عليهم ليكونوا منتجين لـ «بضاعة» رائجة ومطلوبة.

«ماذا حدث هنا: أسامة دياب»: حتى الخامس من تشرين الأول (أكتوبر) ــ «غاليري أيام» (بيروت- سوليدير). للاستعلام: 01374450