سوزان أبو الهوا(*)في القدس الشرقيّة بيت حجريّ، فيه وُلدت جدتي، والدة أبي. على حجرٍ ما موجود عند أساس ذلك البيت، ستجد نقشاًً أنجزه جدّي لها، يقول نصّه: «سأتزوّجكِ». وسط التقاليد الصارمة، كانت هذه الطريقة الوحيدة التي كان يمكنه أن يكلّمها بها، بعدما نجح مراراً في استراق نظراتٍ عَجلى منها. بعد أيام، حضر جدي مع شيوخ عائلته إلى ذلك البيت الحجريّ كي يطلب يدها. بعد قبول طلبه، يمكنني تخيل أمّها والنساء الأخريات في ذلك البيت الحجريّ يندفعنَ بالزغاريد. ذلك البيت مأهول اليوم بعائلة يهودية، بعدما أُخِذ من عائلتي.
في ١٩٥٧، احتفل جدّ جدي، محمد خليل أبو الهوا بعيد ميلاده الـ ١٣٦. إذ اشتهر بأنه أكبر المُعمّرين في الشرق الأوسط. كما يُروى أنّه كان يحمد الله كلّ صباح على نِعمِه، ويشرب جرعة من زيت الزيتون المستخرج من محصوله في جبل الطور.
في القدس الشرقية أيضاً، بيت بناه جدّي وإخوته بأنفسهم. في هذا البيت، وُلد أبي. وفي أحد حيطانه أحدث فتحة كي يُخبِّئ فيها أغراضه الشخصية، بعيداً عن أشقائه وشقيقاته. لكن كلّ شيءٍ ظلّ مكانه، عندما أُجبروا على الرحيل عام ١٩٦٧.
في نهاية التسعينيات من القرن السابع عشر، وصل جدي الأكبر (الخامس في القِدَم) إلى قرية في القدس الشرقية اسمها الطور، قادماً من قرية أخرى تبعد ٢٠ ميلاً عن القدس الغربية، اسمها دير الهوا. هكذا صار يُعرف بكنية أبو الهوا، ومن هنا اسم عائلتي. لقد كانت دير الهوا واحدة من القرى الـ ٤٢٠ التي «طُهّرت» من الفلسطينيين خلال «النكبة»، أو كما تسميها إسرائيل «حرب الاستقلال». لا يزيد هذا الموقع، اليوم، على كونه كومة من الطوب والإسمنت تتبع لإسرائيل.
بوسعي أن أتعقب سلالتي بالعودة ستة أجيال إلى الوراء، إلى تلك القرية في القدس الشرقية عند جبل الطور. بعد مضي ٣٠٠ عام من التاريخ الموثق و٢٠٠٠ عام من التاريخ غير الموثق، عانت عائلة أبو الهوا من التفتت والطرد والاحتلال. أنا أملك أكثر من ٣٥ ابن عم وابنة عم بدرجة قرابة أولى، وأكثر من ٢٠٠٠ ابن عم وابنة عم بدرجات قرابة ثانية وثالثة ورابعة. جميعنا مبعثرون في أرجاء البسيطة، فيما تنتشر أكبر مجموعات من العائلة في مناطق مختلفة من الأردن أو تعيش تحت الاحتلال. من خلال النظر إلى خط سلالتي الممتدّ، أجد أنني أول ابنة لهذه العائلة تُولد في بلد أجنبيّ.
لقد شقّ والداي وأجدادي وأعمامي وعماتي طريقهم بصعوبة وسط جحيم السّلب والطرد، وتفرّقوا في أصقاع الأرض، كي يجدوا حياة لهم. من فلسطين، خرجوا بداية إلى الأردن ثم سوريا، ثم انتهى والداي في الكويت، حيث وُلدتُ (مع أنني لم أنجح في الحصول على المواطنة).
سعيت دوماً كي أجد المكان الذي أنتمي إليه. وحين بلغتُ السادسة عشرة، أدركت أنني تنقلتُ وقتها بين ١١ مكاناً، موزّعةً على أربع دول مختلفة، ومن بين سنيَّ الـ ١٦، قضيت اثنتين منها فقط مع والديّ. مرةً، كتب مربي الصفّ في مدرستي الثانوية وأحد أصدقائي الأعزاء قصيدة لي سمّاها «ابنة الريح»، مستلهماً العنوان من اسم عائلتي. كأنّ اسمي «ابنة الريح» تحوّل إلى نبوءة تُحقق ذاتها.
ما تقترحه إسرائيل كصيغة للسلام يُملي بعدم قدرتي على إعادة شراء بيت جدتي، فضلاً عن عدم قدرتي على المطالبة باستعادته ثانية. لا يمكنني العيش حيث عاش جدّ جدّي أو حيث تناول زيتونه. لا يمكنني منح وتمرير هذا التاريخ العريق لابنتي، اللهم إلا في القصص التي تفتقر إلى جماليات ثقافتنا ودقائق لغتنا والإحساس بالأرض ونكهة القُربى والأهل. لا يمكنني فعل أيّ شيء سوى الانفصال عن جذوري والتحوّل إلى شخص آخر يختلف عمّا أنا عليه.
من الجهة الأخرى، يتمتع أيّ شخص يهوديّ في أيّ مكان في العالم بحقوق على جذوري وعلى تاريخي وعلى ممتلكات عائلتي أكثر مما أملك.
لماذا؟ لأنني أتبع لصنف البشر المغلوط. هذا هو حق العودة. لا يمكن تبسيطه وحصره في المطالبة بممتلكات مسروقة. إنه الإقرار بكوننا بشراً نستحقّ حقوق الإنسان؛ بكوننا نستحق امتلاك تاريخنا. إنه التأكيد أنّ اجتثاث مجتمع ما ـــــ في القرن الحادي والعشرين، من أجل هدف واحد ووحيد وهو استبدالهم بشعب آخر «مختار» ـــــ هو أمر سيئ وغير حسن. ونهايةً، على إسرائيل نفسها أن تعترف بمسؤوليتها عن خطاياها التي ارتكبتها ضد أصحاب الأرض الأصلانيين. ولذلك يجب أن تكون هذه لغة السّلام الحقيقية.

(*) قاصّة فلسطينيّة مقيمة في بنسلفانيا

ترجمة علاء حليحل