ريتا فرجرحل محمد عابد الجابري فجأة، تاركاً إرثاً ثقافياً، عماده خوض أولى المعارك وأخطرها عبر مقارعته لثنائيات متعارضة، قامت برمّتها على جدلية التراث والحداثة، الأصالة والمعاصرة، والباحثة عن تساؤل أساسي: كيف نقرأ تراثنا بعقل نقدي يتخطّى الانغلاقات الدوغمائية؟ أتى جواب الجابري بتأليف أمّهات المراجع بدءاً من أطروحته «نحن والتراث»، مروراً برباعيته «نقد العقل العربي»، وصولاً إلى «مدخل إلى القرآن الكريم». هذا العمل أثار جدلاً كبيراً داخل الأوساط الثقافية والإسلاموية في آن، بعدما قدّم مقاربات تأويلية كان أشدها وقعاً طرح تفسير جديد لأمّية الرسول. الجابري المنتمي إلى الجيل الثالث للنهضويين العرب، أمثال أنور عبد الملك وياسين الحافظ ومحمد أركون وعبد الله العروي، أمضى جهده الفكري في مُساءلة الذهنية العربية الإسلامية التي آثرت ـــــ منذ إغلاق باب الاجتهاد ـــــ المضي في دروب الماضوية، بكل ما تحمله العبارة من حروب خاضها هو وغيره، ممن كانت لهم الأسبقية التاريخية في الثورة على حرّاس العقيدة. ولعل محنة ابن رشد داعية الفلسفة العقلانية، والقائل بحرية الفكر إزاء العقيدة الدينية، تعبِّر بصورة صارخة عن أبرز الأفكار التي هجس بها الجابري.
جادل صاحب «ابن رشد، سيرة وفكر» معضلات التراث في المجال العربي الإسلامي بعين ثاقبة لا ترى إلّا في العلم سبيلاً لخرق المسكوت عنه. طبعاً لم يتقدّم بخلاصته إلّا بعد استناده إلى التجربتين الفكريتين اليونانية في العصر القديم، والأوروبية في العصر الحديث. تتحدد أبرز خلاصات الجابري في تجديد الفكر الإسلامي المتناثر في سياق جدلية الأصالة والمعاصرة، أي إنّ تأويل النصوص التأسيسية في الإسلام يقتضي رؤية تنويرية تُحيل على تفسير التراث من جديد. من هنا يمكن أن ندرك حجم المخاض الفكري الذي مرّ به الجابري، المسكون بأسئلة النهضة، والداعي إلى إعادة كتابة «تاريخنا». التاريخ الثقافي العربي السائد، بالنسبة إليه، مجرد اجترار وتكرار رديء للتاريخ الثقافي نفسه الذي كتبه «أجدادنا». لكن إذا كان العلم مصدر الوعي، وإذا كانت النهضة العلمية في أوروبا هي أساس التقدم الحضاري، فما الذي عرقل مسيرتها في الحاضرة العربية؟ يخلص الجابري الى أنّ الدور الذي قام به العلم عند اليونان، وفي أوروبا الحديثة في مساءلة الفكر الفلسفي ومخاصمته، قامت به السياسة في الثقافة العربية الإسلامية، معتبراً أن اللحظات الحاسمة في تطور الفكر العربي الإسلامي لم يكن يحددها العلم، بل كانت تحددها السياسة، فظل علم الخوارزمي وابن الهيثم خارج مسرح الحركة في الثقافة العربية.
الخلاصات التي تطرق إليها الجابري من نقد التراث، إلى ماهوية العقلية العربية بأجزائها الأربعة، وسطوة القبلية، ومسألة الهوية، ونكبة ابن رشد، والعصبية والدولة عند ابن خلدون، وتفسير القرآن بنكهة علمية، تستحق كلها قراءة القراءات، لأنها تعبِّر عن أبرز الإشكاليات التي نعاني منها، وتمثّل امتداداً لأزمة المعتزلة وورثتهم من العقلانيين العرب في زمن تسيطر عليه محاكم التفتيش ومشايخ التكفير.