ياسين تملاليرحل محمد عابد الجابري بعد رحلة طويلة نجح خلالها في خلع هالة القدسية عن الموروث الفلسفي واللاهوتي العربي ووضعه في دائرة الضوء النقدي. لم يبتدع الجابري الدراسة النقدية للتراث. هي من مكوّنات الفكر العربي منذ مطلع القرن العشرين، مع أعمال مثل «في الشعر الجاهلي» لطه حسين و«الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق. لكنّ هذا التوجّه النقدي أخذ منحىً مختلفاً في السبعينيات والثمانينيات، بفضل أعمال الجابري ومنجزات باحثين آخرين.
زاوج المنحى الجديد بين الحس النقدي والرغبة في اكتشاف «خصوصيات الفكر العربي»، نائياً عن وهم تمثيل الحركات الفلسفية الأوروبية الحديثة. يمكن تلخيصُ مشروع الجابري في هذه الكلمات التي نقرأها في «التراث والحداثة»: «ما لم نمارس العقلانية في تراثنا، وما لم نفضح أصول الاستبداد ومظاهره في هذا التراث، لن ننجح في تأسيس حداثة خاصة بنا، حداثة ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة «العالمية» كفاعلين لا كمجرد منفعلين». هنا، يدافع الراحل عن ضرورة «حداثة عربية» خاصة، منتقداً المشاريع السلفية والليبرالية والماركسية التقليدية للاندماج في العالم المعاصر.
تبدو «وسطية» الجابري محاولةً للتموضع بمعزل عن الصراعات الدائرة بين التيارات العلمانية والتيار الديني بعد انحسار المد «التقدمي» في العالم العربي. محاولةٌ جاءت تؤدي دور الحَكَم بين اليسار الماركسي المتراجع واليمين الإسلامي الصاعد. وتجلّت هذه الوسطية في جرأة دراسته للنص القرآني من ناحية، وفي رفض العلمنة من ناحية أخرى.
ويلاحظ أن الجابري برر استحالة تطبيق نظام علماني في العالم العربي بنفس تبريرات الإسلاميين. فهو مثلهم كان يرى «العلمانية بمعنى فصل الدين عن الدولة غير ذات موضوع في الإسلام، لأنه ليس فيه كنيسة حتى تفصل عن الدولة». وقد عدّ كثيرٌ من العلمانيين العرب هذا الموقف تنازلاً إرادياً للحركة الإسلامية.
ورغم أن مشروع الجابري لرصد تكوين العقل العربي كان قطيعة نسبية مع ماضي الفكر الليبرالي في المنطقة العربية، فإنه بقي مطبوعاً بطابعه المثالي ذاته. قلّما كان هذا الفكر يعدّ التراث نتاج ظروف تاريخية أدى فيها الاقتصاد دوراً حيوياً. وهو حتّى إن ألقى عليه هذه النظرة المادية، فإنّه كان يعدّ «النهضة» أساساً عملية «تراكم فكري» سيقدّرُ لها يوماً أن تغيّر الواقع السياسي والاقتصادي.
صحيح أن في استخدام مصطلح «العقل المستقيل» لوصف جزء من الإنتاج الفكري واللاهوتي العربي تنويهاً بتباين هذا الإنتاج وتنوّعه، لكن ألا تشير عبارةُ «العقل العربي» في حدّ ذاتها إلى أن موضوعها معطى ثابت عبر العصور؟ ألا يعني ذلك افتراض تمايز جوهري بين «عقل عربي» وعقل آخر «غربي» يختلف عنه جذرياً؟ أما الدعوة إلى بناء «حداثة عربية فعّالة لا منفعلة»، فتحمل في طيّاتها الإيمان بأنّ بلورة فكر حداثي هي أولى مراحل الحدثنة العربية، وهو ما يفترض للفكر استقلاليةً كبيرةً عن سياقه التاريخي ودوراً جوهرياً في تغييره.