رحيل الفيلسوف المغربي المعروف
عن 75 عاماً، رحل أمس أحد أبرز أقطاب «العقلانية العربية» المعاصرة. على مدى ربع قرن، أخضع صاحب «نحن والتراث» العقل العربي لمشرط النقد، مسائلاً مرجعياته، ومخلخلاً مسلّماته الدينية والفكرية والأخلاقية. صاحب «في نقد الحاجة إلى الإصلاح» يوارى في الثرى اليوم في الدار البيضاء

عثمان تزغارت
أمس، غيّب الموت المفكر المغربي الكبير محمد عابد الجابري (1935 ـــ 2010)، أحد أبرز أقطاب «العقلانية العربية» المعاصرة. من خلال أعماله التي تضاهي الثلاثين مؤلفاً في الفلسفة والفكر السياسي والدراسات التراثية، أخضع الجابري بنية العقل العربي لمشرط النقد. وعلى مدى ربع قرن، عمل على تفكيك تركيبة هذا العقل، ومساءلة مرجعياته، وخلخلة يقينياته ومسلّماته الدينية والفكرية والأخلاقية، في مؤلفه الموسوعي «نقد العقل العربي» الذي صدر في أربعة أجزاء: «تكوين العقل العربي» (1984)، و«بنية العقل العربي» (1986)، و«العقل السياسي العربي» (1990)، و«العقل الأخلاقي العربي» (2001).
معظم أقران الجابري (ومنتقديه)، من حسن حنفي إلى جورج طرابيشي، ومن علي حرب إلى محمد أركون، اكتفوا بدراسة الفكر العربي ونقده من منطلق أنّ «الفكر» هو الذي ينصبغ بالخصوصية المحلية، فيما «العقل» واحد في الشرق والغرب (د. علي حرب).
وحده صاحب «في نقد الحاجة إلى الإصلاح» انبرى لنقض هذه البديهية، مبتكراً مصطلح «العقل المستقيل» الذي أثبت من منظوره أن العقل العربي الذي يخشى الخوض في النقاشات الحضارية الكبرى، وينأى عن كل ما هو إشكالي، أو مثير للجدل، أو ناقض للإجماع، أو ناقد للبديهيات والمسلّمات، إنما هو «عقل مستقيل» لا يحتاج إلى الإصلاح والتجديد فحسب، بل إلى إعادة الابتكار! وقد أثبت بذلك أنّه لا يمكن الاكتفاء بنقد الفكر بل العقل العربي في كلّيته، إذ «لا نهضة فكرية ممكنة من دون تحصيل آلة إنتاجها، أي العقل الناهض».
في نظريته النقدية، لم يُغفل الجابري دراسة الفكر العربي، قديمه وحديثه، حيث خصّه بسلسلة من الأبحاث المرجعية التي بدأها منذ مطلع الثمانينيات، بكتابيه «نحن والتراث» (1980) و«الخطاب العربي المعاصر» (1982). ثم عاد إليها لاحقاً في «إشكاليات الفكر العربي المعاصر» (1988)، و«قضايا في الفكر المعاصر» (1997)، وأخيراً «في نقد الحاجة إلى الإصلاح» (2005).
وعلى الرغم من المكانة المرموقة التي كان يحظى بها بين أقرانه من المفكرين العقلانيين و«فلاسفة ما بعد النهضة» العرب، إلا أن محمد عابد الجابري لم يتردد في التغريد خارج السرب، موجّهاً سهام النقد أيضاً إلى الفكر الحداثي والعلماني العربي المعاصر. فقد نادى بتأصيل الفكر التنويري والتقدمي في سياق عربي ـــــ إسلامي، مطالباً بـ«النظر إلى الأمة العربية والإسلامية كمجموع، وليس فقط إلى نخبة محصورة العدد، متصلة ببعض مظاهر الحداثة». وقد أعاب على هذه النخبة العربية أنها «تنظر في مرآتها، وتعتقد أن الوجود كله هو ما يُرى في تلك المرآة، فيما هي نخبة صغيرة، قليلة، ضعيفة الحجّة أمام التراثيين»... ليخلص إلى أنّ «المطلوب، في ما يخص الحداثة، ليس أن يُحدِث الحداثيون أنفسهم، بل أن ينشروا الحداثة على أوسع نطاق. والنطاق الأوسع هو نطاق التراث...».
رأى أن تحقيق العقلانيّة والحداثة يتمّ من خلال تأصيلهما في البيئة الثقافية العربية ـ الإسلامية
من هذا المنطلق، ارتأى الجابري أن تحقيق العقلانية والحداثة يجب أن يتم من خلال تأصيلهما في البيئة الثقافية العربية ـــــ الإسلامية، عبر «ربط الجسور بين فكرنا العقلاني المعاصر واللحظات الحيّة والتقدمية في تراثنا». وقد كانت بوادر هذا المسعى الهادف إلى تأصيل العقلانية والحداثة قد برزت منذ أول كتاب أصدره الجابري في عام 1971 بعنوان «العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي». وقد كان ذلك الكتاب أطروحته لنيل دكتوراه الدولة في الفلسفة والفكر الإسلامي من «جامعة محمد الخامس» في الرباط (1970). ثم تُرجم هذا المسعى، على نحو أكثر عمقاً في كتابه «نحن والتراث» الذي يُعدّ أكثر أعماله مقروئية، إذ أُصدرت منه عشر طبعات بين أعوام 1980 و2006.
خلال عقد التسعينيات، أصبح الاشتغال على الجوانب النيّرة في التراث الإسلامي هو المحور المركزي لأبحاث الجابري. وقد أصدر في هذا الشأن ثلاثة مؤلفات بارزة، هي: «التراث والحداثة» (1991)، و«المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد» (1995)، و«الدين والدولة وتطبيق الشريعة» (1996).
ومن منطلق هذا المسعى التنويري ذاته، أشرف الجابري ــــ بين عامي 1997 و1998 ـــ على إعادة نشر أعمال ابن رشد (فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال/ الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة/ تهافت التهافت/ كتاب الكليات في الطب/ الضروري في السياسة: مختصر سياسة أفلاطون)، في طبعات خاصة طعّمها بمداخل ومقدمات وشروح وافية، لتكون في متناول القارئ المعاصر. ثم أصدر، امتداداً لذلك، كتابه «ابن رشد: سيرة وفكر» (1998).
أما خلال العشرية الأخيرة، وبعدما استكمل رباعية «نقد العقل العربي»، فقد تفرغ الجابري للدراسات القرآنية. هكذا، أصدر مؤلفين مرجعيين في هذا الشأن، هما: «مدخل إلى القرآن الكريم» (2006 ــــ مركز دراسات الوحدة العربية)، و«فهم القرآن الحكيم: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول» الذي كان آخر أعماله، وقد صدر في ثلاثة أجزاء خلال ربيع وخريف 2008.
في هذه الدراسات القرآنية، اعتمد الجابري المنهج ذاته الذي صنع فرادة كتاباته عن ابن خلدون (في «العصبية والدولة»)، وابن سينا («نحن والتراث»)، وابن رشد (في «سيرة وفكر»)، حيث طرح جانباً كل ما كُتب عن هؤلاء المفكرين، مكتفياً فقط بما وصلنا من صحيح مؤلفاتهم. واندرج ذلك ضمن منحى أكاديمي ينادي بتغليب النصوص والمتون على التعاليق والتأويلات.
من هذا المنطلق ذاته، اعتمد الجابري في دراساته القرآنية فقط على ما ورد في النص القرآني، بوصفه «النص المرجعي للعقل والحضارة الإسلامية»، مُسقطاً تماماً تعاليق وتفاسير الأئمة والفقهاء. بالنسبة إليه، الأهم ليس تفسير أو تأويل النص القرآني، بل مقاربة هذا النص من مدخل مغاير من أجل فهم ما يكشفه أو يعكسه عن بنية وتركيبة العقل العربي...
بالطبع، هذه المقاربة المجدّدة الهادفة إلى دراسة النص القرآني من منظور العلوم الإنسانية الحديثة، وبأدوات البحث العلمي المتجرّد، بمعزل عن سلطة الفقهاء وتأويلات المفسرين، لم تمر من دون تأليب التيارات السلفية ضد الجابري. هكذا، اتُّهم كتابه «مدخل إلى القرآن» بأنه يهدف إلى «التشكيك في سلامة القرآن الكريم من التحريف». أما مسعاه الهادف إلى تأصيل العقلانية والحداثة من خلال ربطهما بالجوانب النيّرة في التراث الإسلامي، فقد رأى فيها السلفيون خطراً أكبر من مساعي غيره من «العلمانيين الفاشلين». يقول الداعية سليمان بن صالح الخراشي، على موقعه الإلكتروني «صيد الفوائد»، عن الجابري «يسعى إلى تحقيق الحداثة من خلال التراث لا من خارجه، كما يفعل العلمانيون الفاشلون، الذين لم تنجح دعواتهم إلى تغريب المجتمع المسلم، لأنها أتت من خارجه. أما هو (أي الجابري)، فيلجأ إلى أسلحة التراثيين، ويجعلها ترتد إلى نحورهم، في محاولة خبيثة لإعادة تشكيل العقل والتاريخ والتراث حسب ما يريد، ومن هنا تأتي الخطورة»!


نال الجابري العديد من الجوائز، من بينها جائزة «بغداد للثقافة العربية» (1988) «والجائزة المغاربية للثقافة» (1999) وجائزة «الدراسات الفكرية في العالم العربي» (2005) وميدالية ابن سينا في اليوم العالمي للفلسفة (2006). وفي عام 2008، حاز جائزة «ابن رشد للفكر الحرّ» التي خُصِّصت في تلك السنة لباحث عربي تقصّى في دراساته أسباب تعثّر النهضة العربية.