مسلسل تلفزيوني يخترق قلعة السينما الحصينةباريس ــــ عثمان تزغارت
لأول مرة في عهد الإدارة الحالية لـ«مهرجان كان»، التي تمسك بدفّة هذا الموعد السينمائي العالمي منذ عشر سنوات، ينشب خلاف حاد بين رئيس المهرجان جيل جاكوب، والمفوّض العام تيري فريمو. هذا الخلاف الذي خرج إلى العلن، سببه إصرار فريمو على إدراج المسلسل التلفزيوني الذي أخرجه السينمائي الفرنسي أوليفييه أساياس لمصلحة محطّة Canal +، عن سيرة المناضل الأممي الفنزويلي كارلوس، المعتقل حاليّاً في سجون فرنسا بتهمة الإرهاب.
وكان مجلس إدارة المهرجان قد وضع فيتو، بأغلبيّة أعضائه الثلاثين، على مشاركة هذا العمل المثير للجدل في التشكيلة الرسمية لـ«كان ــــ 2010». لذا، لم يرد في قائمة الأفلام المشاركة التي أُعلن عنها في المؤتمر الصحافي السنوي للمهرجان. لكن ضغوط تلفزيون «كانال بلوس» الذي يعدّ الممول التجاري الرئيسي للمهرجان، أدت إلى إصدار قرار ثان من مجلس الإدارة يجيز عرض المسلسل في التشكيلة الرسمية، لكن خارج المسابقة. بالتالي، أُلحق باللائحة الأصلية للأفلام المشاركة بعد أسبوع من إعلانهاليست هذه المرة الأولى التي يُلحق فيها فيلم على قوائم المهرجان، بعد الإعلان الرسمي. الجميع يذكر، مثلاً، أن فيلم لوران كانتيه «بين الجدران» الذي حاز السعفة الذهبية قبل عامين، تقرّرت مشاركته بعد عشرة أيام من إعلان أسماء الأعمال المتنافسة يومها. لكن السابقة التي مثّلها إلحاق «كارلوس» بالتشكيلة الرسمية، تكمن في الملابسات المريبة التي أحاطت بها. هي المرة الأولى التي يخرج فيها إلى العلن خلاف حاد عند قمّة هرم في «كان». رئيس المهرجان يعترض اعتراضاً قاطعاً، على دخول فيلم أساياس إلى البرنامج الرسمي، من منطلق أنه «لا مكان لمسلسل تلفزيوني في مهرجان «كان» الذي يعد قلعة السينما». أما المفوض العام، فرضخ لضغوط المحطّة المشفّرة الشهيرة، وفرض على مجلس إدارة المهرجان إعادة النظر في قرار الرفض الذي اتُخذ بالأغلبية.
معركة لي الأذرع في غرفة القيادة، جاءت لتخلّ بمبدأ الإدارة الجماعية المعمول بها في المهرجان منذ 2000. مع بداية العقد الحالي، قرّر جيل جاكوب، بفعل تقدمه في السن، التنازل عن منصب المفوض العام (المدير الفني) الذي كان يتولاه منذ ربع قرن، ليصبح رئيساً للمهرجان ضمن «قيادة جماعية» تضم المديرة العامة فيرونيك كايلا، والمفوض العام تيري فريمو.
ويرى مقربون من مجلس إدارة المهرجان أن إصرار تيري فريمو على تجاوز رغبة «الرئيس»، في ما يتعلّق بفيلم «كارلوس»، من شأنه أن ينسف توازن هذه القيادة الجماعية، ما يهدّد بـ«تفجير» الإدارة الحالية للمهرجان. وخصوصاً أن هذا الخلاف لم يجر في كواليس المهرجان، بل انتقل إلى الساحة العامة، وتداولته الصحافة، إذ سعى مؤيدو فريمو، وفي طليعتهم محطّة Canal +، لتصوير الخلاف على أنه صراع بين وجهتي نظر: واحدة عصرية ومنفتحة (فريمو)، والأخرى تقليدية ومحافظة (جاكوب)!
لكن المسلسل موضوع الخلاف كان أيضاً محلّ جدل منذ عامين بين منتجه باتريس لوكونت، والمعني الأول بالأمر، أي كارلوس. في شباط (فبراير) الماضي، وصل الأمر إلى المحاكم، إذ رفع كارلوس دعوى ضد «كانال بلوس» طالباً تعليق بث المسلسل وإلزام المنتج بتزويد كارلوس بنسخة من الصيغة النهائية للمسلسل، لكي يقدّم للمحكمة الأدلة المفصلة التي تثبت، كما قال، أن «هذا العمل عبارة عن بروباغندا معادية هدفها تشويه صورتي، من خلال تصويري مجرماً من أحطّ الأنواع ينشط خارج أي إطار فكري أو سياسي».
وأضاف كارلوس في دعواه: «أعرف سمعة المخرج أوليفييه أساياس وحرفيته، ولا أشك بأنه عمل على إنجاز هذا العمل بروح فنية عالية. لكنني أدرك جيداً أن الشركة المنتجة للمسلسل Film en stock، التي يديرها دانييل لوكونت، وتلفزيون «كانال بلوس»، لهما ارتباطات لا تخفى على أحد بجهات ولوبيات معادية لي ولمساري النضالي. وهي جهات صهيونية إسرائيلية وأميركية وليست فرنسية...» (راجع الكادر أدناه).

رفضت المحكمة، باسم حريّة التعبير، دعوى كارلوس ضدّ المسلسل الذي يشوّه صورته

أما محامية كارلوس (وزوجته)، إيزابيل كوتان بيير، فذهبت أبعد من ذلك. لقد اعتبرت أن المسلسل يمثّل تعدياً على مبدأ براءة أي متهم في القضايا التي لم يُحاكم فيها بعد، وقدمت للمحكمة وثائق تثبت أن الصحافي ستيفان سميث، الذي اشترك مع الكاتب دان فرانك في تأليف سيناريو المسلسل، تمكّن من الاطلاع على نحو غير قانوني على ملفات قضائية يُفترض أنها محمية بحكم سرية التحقيق، لأنها تتعلق بقضايا لن يُحاكم فيها كارلوس قبل نهاية 2011. واحتجت المحامية بأن تسريب مضامين تلك الملفات، والترويج لها في المسلسل، يمثّل خرقاً قانونياً يؤثر على حيادية القضاء، ويحرم كارلوس من حق الدفاع عن نفسه.
لكنّ محكمة باريس، بعد ثلاثة أشهر من المداولات، قررت رفض دعوى كارلوس، وأمرت بحفظ القضية من دون أي ملاحقة للمسؤولين عن تسريب تلك الأسرار القضائية. واكتفت القاضية دومينيك لوفيبر في جلسة الحكم، الشهر الماضي، بالقول إنّ دعوى كارلوس مرفوضة لأنها تمثّل تعدّياً على حرية التعبير. أما المدعي العام، فقال: «طلب كارلوس وقف بث المسلسل، لا معنى له. إذا استجبنا له، فيجب على من يريد تأليف كتاب عن بن لادن مستقبلاً أن يطلب الإذن منه مسبقاً»!

الثائر الفنزويلي يردّ على افتراءات السيناريوبعد قراءة هذا السيناريو الذي يقع في 300 صفحة، حرّر كارلوس بخط يده نصاً مطوّلاً قدّم فيه للمحكمة الفرنسية 70 مقتطفاً من السيناريو، قال إنّها «تثبت جميعاً أن المسلسل يتعمد تحريف الوقائع والحقائق التاريخية، من أجل تشويه صورتي». ثم فصّل أهم مآخذه على السيناريو.
بخصوص الجزء الأول من المسلسل الذي يحمل عنوان «كارلوس= 3 / DST= 0»، يلفت كارلوس، إلى أنّه خلافاً لما ورد في النصّ، «لست متخرّجاً من جامعة موسكو»، و«لم أكن أتصلّ شخصياً بـ «وكالة فرانس برس» لتبني عملياتي»، و«لم أكن أتسلّى بفك القنابل اليدوية بأسناني»، و«ليس صحيحاً أبداً أني كنت أتناول المهدئات».

لستُ مدمناً، ولا أرتاد فتيات الهوى، ولا أتسلى بفك القنابل! (كارلوس)
أما عن الطريقة التي يصوّر بها السيناريو عملية خطف وزراء أوبك في فيينا ــــ وكان كارلوس قد وصفها في حديث مطوّل أدلى به إلى كاتب هذه السطور، بأنها «من نسج الخيال، ومحض اختلاق» ــــ فقد زوّد المناضل الفنزويلي المحكمة بنص من 21 صفحة بخط يده، يسرد فيه تفاصيل تلك العملية.
بالنسبة إلى الجزء الثاني من المسلسل الذي يحمل عنوان «اسمي كارلوس»، ينفي نزيل سجن «بواسي» أن يكون هو الذي اختار لنفسه لقب كارلوس، تيمناً بالرئيس الفنزويلي كارلوس بيريز: «كيف أفعل ذلك، وأنا أعرف أن كارلوس بيريز كان عميلاً لـ CIA؟». ويضيف أنه، خلافاً لما ورد في السيناريو، لم يصف مسدسات «توكاريف» السوفياتية بأنها رديئة، بل «جرّبتُها، ووجدتُ أنها ممتازة». كما ينفي، مرة أخرى، أن يكون مدمناً، ويقول: «لم أتناول طيلة حياتي أي مخدرات أو منشطات أو مهدئات كيماوية». كما ينفي أن يكون قد أقام برفقة زوجته السابقة ماجدالينا كوب في «فندق بغداد»...
أما عن الجزء الثالث والأخير من المسلسل الذي يحمل عنوان «المرتزق»، فيصحّح كارلوس: «لم يحدث أن ارتديتُ في حياتي أي سلاسل أو حلى ذهبية»، و«ليس من هواياتي المشي حافي القدمين»، و«ليس صحيحاً أنني كنت أرتاد فتيات الهوى»، و«لم أكن يوماً عميلاً للاستخبارات الليبية»، و«ليس صحيحاً أنني اغتلت مدام عطّار، بل قتلها كومندو تابع لرفعت الأسد، ولا علاقة لي بذلك بأي شكل من الأشكال»، و«كل ما ورد في السيناريو عن فترة إقامتي في السودان مختلق تماماً وغير مطابق للواقع بتاتاً»...
عثمان....