تشرّّّّّح بيئة غارقة في عنفها القسريفي روايتها الرابعة «لها مرايا» (الآداب»)، تقتفي الكاتبة السوريّة أثر ليلى الصاوي عبر حيواتها المتتالية. صاحبة «رائحة القرفة» تخوض هنا تجربتها مع «شهوة الحكي»

خليل صويلح
لم تغادر سمر يزبك منطقتها الروائية الأثيرة: لعنة الحب وسطوة السلطة. هذان الخطان يشتبكان في صراع مدمّر وجحيم حياتي يحاصر أرواح شخصياتها أينما حلَّت. هذا ما نجده في روايتها الأولى «طفلة السماء»، و«صلصال»، وعلى نحوٍ آخر في «رائحة القرفة»، إذ تقتحم محرَّمات لطالما بقيت خارج مرمى السرد النسوي السوري. في روايتها الجديدة «لها مرايا» الصادرة أخيراً عن «دار الآداب» (بيروت)، بالتزامن مع الطبعة الإيطالية من روايتها «رائحة القرفة» (دار Castelvecchi)، تتبع الكاتبة الشابة سيرة ممثلة تدعى ليلى الصاوي.
هذه الأخيرة لديها اعتقاد راسخ بأنّها عاشت أكثر من حياة في أزمنة مختلفة. لذا، فإن لقاءها ضابط الأمن سعيد ناصر، كان استكمالاً لحياة سابقة توقفت قبل أربعة قرون. كان ذلك أثناء استباحة جنود السلطان سليم الأول مدينة اللاذقية، وتشريد أبناء طائفة كاملة إلى الجبال. حينها همَّ أحد الجنود العثمانيين باغتصابها، لكنّ ابن عمها استلّ سكيناً وطعنها في منتصف صدرها، كي يمنع الجندي من اغتصابها. ابن عمها نفسه الذي قتله جنود السلطان، عاد إلى الحياة باسم سعيد ناصر. عرفته من لمعان عينيه، لذلك قرَّرت أن تقتحم حياته من دون ندم.
كان سعيد ناصر أحد الضباط المقرّبين من زعيم الانقلاب الأخير، ورئيس أحد أكثر فروع الأمن رهبةً. في المكتب الذي شهد العناق الأول بين ليلى وسعيد، كان شقيقها علي قد تلقّى صفعات دامية من هذا الضابط، لانتسابه إلى حزب معارض. لكنّ الممثلة الشابة كانت قد شُغفت بالضابط، وتجاهلت آثام الماضي، مثلما تجاهل الضابط عداء جدّها له، بسبب انخراطه في دوامة عنف السلطة.
تفتتح صاحبة «صلصال» روايتها بمشهد جنازة الزعيم. «حشود متدافعة حول عربة مدفع عليها نعش ملفوف بعلم البلاد. لا يعبئون باللطمات أو الانحناءات والركلات، وسط الأمواج البشرية». لحظة عصيّة على الوصف، ستربك سعيد ناصر في عزلة ما بعد السلطة. فقد اعتاد حياة أخرى في قلعة بناها عند حافة الجبل المتاخم لقريته. في اليوم نفسه، كانت ليلى الصاوي تتلمّس طريقها إلى صالون ماري، بعد خروجها من السجن مباشرة، إذ لفّق سعيد ناصر لها تهمة تعاطي المخدرات وبيعها، للتخلص من عبء ثقيل أساء إلى هيبته العسكرية. كانت ليلى قد فقدت جمالها القديم، ولم تجد أمامها سوى ماري عاملة الصالون تستضيفها في غرفتها البائسة. وفي الصباح، تستقل ليلى حافلة لمقابلة سعيد ناصر، منساقة وراء قدرها الأبدي. وفي نقطة ما من الطريق، سيلتقيان في اتجاهين متعاكسين: هو ذاهب إلى العاصمة للمشاركة في الجنازة، وهي لمقابلة عشيقها ومواجهته.
هل كان سعيد ناصر شهريار الحكاية الجديدة، هو من أوقف شهوة الحكي لدى شهرزاده؟ كأن ضجر الضابط من حكايات محبوبته كان السبب في تدمير حياتها وشغفها بالحكي. الدمار لحق بكليهما، ذلك أن سعيد ناصر أحسّ بأن هذه المرأة ستقوده إلى حتفه. لكنّ ليلى لم تتوقف عن توقها إلى ملاحقة قدرها المحتوم، مهما كان الثمن باهظاً. جملة واحدة تتكرر في كل حيواتها المتتالية: «اطعن قلبي»... ستفقد مراياها التي حطّمها سعيد ناصر في لحظة غضب.
تتكئ سمر يزبك في روايتها على سرد موشوري في مرايا متجاورة. مرايا تتكشف عن عنف تاريخي لم تشفه آثام الحب، في تشريح أسرار بيئة كانت تعيش تيهاً قسرياً. لعل ما تفعله صاحبة «جبل الزنابق» هو محاولة لملمة شظايا مرايا بطلتها وشحنها لغوياً في المقام الأول، كي لا تفلت خيوط السرد، في مواكبة مصائر ست شخصيات تتناوب بناء حيواتها وأقدارها وتيهها في الأزمنة. فهي كما تقول، لا تستطيع الكتابة من دون أن تضع مرآة أمامها على المكتب... «لأتأكد بأن العيون التي تحدّق بي، هي أنا، وليست الشخصيات التي أنسج مصائرها». إلى هذا الحد تتماهى الكتابة بصاحبتها؟ تجيب: «الكتابة مسألة عيش، وعلاج للخوف، في عالم ضيّق لا يمكن توسيعه وتقويض أسواره إلا عبر شهوة الحكي، فأنا أعيش حريتي المخادعة في النص».