أمس عرضت قناة «الجزيرة الوثائقية» آخر حلقة من برنامجها الذي أضاءت فيه على سيرة هذا المفكّر المصري، الذي رحل قبل عامين، تاركاً خلفه عشرات الدراسات، أبرزها «موسوعة الصهيونية»
محمد خير
في عام صدور كتابه «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة»، صدر لعبد الوهاب المسيري أيضاً ديوانه الشعري للأطفال «أغنيات إلى الأشياء الجميلة». العام هو 2002، والدار هي «الشروق»، أمّا المؤلف، فهو رجل احتفظ بشبابه حتى الرمق الأخير. وحين توفّي عام 2008 عن سبعين عاماً، لم يكن قد ترك مدرسة فكرية أو هواية أدبية أو نشاطاً سياسياً دون أن يمارسه حتى الانغماس. ثمّ لا يلبث أن يبتعد عنه حتى ليبدو متبرّئاً منه. ولعلّ ما سبق هو ما دفع قناة «الجزيرة الوثائقية» إلى تخصيص حلقتَين من برنامج «بصمات» ـــــ آخرهما عُرضت أمس ـــــ للإضاءة على سيرة هذا الرجل.
ومن المفارقات أنه قدّم «رحلتي الفكرية ـــــ سيرة ذاتية غير موضوعية» عام 2001، أي قبل ظهور حركة «كفاية» التي صار منسّقها العام، وتحمّل في سبيل ذلك ما تحمّل. السنوات السبع الأخيرة التي تلت إصداره سيرته، حفلت بسيرة إضافية تكفي أكثر من رجل. لكن ليس ذلك جديداً على صاحب «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية»، فتلك بدورها كانت عملاً يحتاج إنجازه إلى دولة لا إلى مفكّر وحيد. لكنه أنجزه في ربع قرن وثمانية مجلّدات تحوي ألفين وثلاثمئة مدخل، هي العمل الذي احتاج منه إلى الجهد الأكبر، وهي التي ردّت له الجميل، فكرّسَته أحد أهمّ صنّاع المعرفة في الثقافة العربية. إذ إنّ ما أنجزه غيرها وحولها شابه الكثير من النقد، ورحلاته الفكرية المتعدّدة جلبت عليه سخطاً بقدر ما جلبت الرضى. ورأى البعض أن السنوات الأخيرة للمسيري لم تشهد منه الالتزام بالمعايير العلمية التي ألزم نفسه بها في البدايات، وأنّ بحثه عن نظرة «عربية» في المسألة اليهودية، ومواقف «إسلامية» من مناهج الفلسفة والاجتماع، قد جعل منه باحثاً يطلب حقيقة بعينها لا الحقيقة بذاتها. وتكرّس ذلك بأن احتشدت جنازة اليساري السابق برجال دين ومفكّرين إسلاميّين، منهم يوسف القرضاوي، وفهمي هويدي وعمرو خالد. لكنّ مختلف التيارات حضرت أيضاً. وبخلاف السياسيّين، احتشد مواطنون واحتشد تلامذة وباحثون ومساعدون تعلّموا من الراحل أنّ « أيّ إنسان ثوري لا يمكن إلّا أن يؤمن بالعقل التوليدي القادر على تجاوز الواقع الماديّ القائم». لكن عملية تجاوز الواقع، التي بدأت لدى المسيري مسألة تفكيكية، انتهت إلى «عجز المقولات المادية عن تفسير الإنسان»، فقد رأى ـــــ بين هذا وذاك ـــــ أنّ التفكيكية تحوّل العقل المادي إلى «عقل سطحي لا يمكن أن يطرح الأسئلة الكليّة». رابطاً ذلك بموقف سياسي رأى في المسار «التقويضي» للتفكيكية تحقيقاً لـ«غاية الرأسمالية وهدفها في صيغتها النهائية: الإمبريالية».
هل كان ذلك هو ما أدى إلى نهاية رحلته عند محطة الإيمان؟ محطة مهّد لها بوصفه لنفسه «أنا ماركسي على سنّة الله ورسوله». لكنه لم يعد بعد ذلك ماركسياً، ولم يعد مؤمناً «بالمشروع التحديثي الغربي» برمّته. لقد اختلطت المفاهيم هنا، ولم يبدُ أنّ رغبته القديمة في رؤية عربية تأسيسية قد حالفها النجاح. مع ذلك، فقد بقي من المسيري الكثير، تكفي «موسوعة الصهيونية» ليبقى اسمه طويلاً وربما إلى الأبد. لكنه أضاف إليها عشرات الدراسات في الفلسفة، والاجتماع، والأدب، واللغة، والتاريخ. وقبل ذلك وبعده، بقي نموذجاً لمثقّف لم يمنعه عمره السبعيني ولا مرض السرطان من النزول إلى الشارع طلباً للحرية.