في كتاب ثان صدر بعد وفاته عن «الساقي»، يقدّم محمد أبو القاسم حاج حمد مقاربة معرفيّة لـ«الحاكميّة»، إلهية كانت، أو استخلافيّة، أو بشريّة. يضع الباحث السوداني المصطلح الشائك في سياقه التاربخي، في ضوء النصوص الدينيّة المنزّلة، وأزمات الخلافة والشورى، مروراً بدعاوى سيّد قطب الراديكاليّة
ريتا فرج
منذ اجتماع السقيفة وتداعياته التاريخية، حتى التأسيس لمفهوم الحاكمية ومتعلقاتها، أثارت نظريات الحكم في الإسلام جدلاً فقهياً وسياسياً. استمد هذا السجال أدبياته من النص القرآني حيناً، ومن الصراع على من يقود أمر الجماعة حيناً آخر. ورغم أنّ الواقع فرض نفسه على المقدّس على وقع الشورى وطاعة ولي الأمر، بقي الجدل قائماً. بعد سيطرة منطق الغلبة والعنف على الخلافات الإسلامية المتعاقبة، بلغ المأزق ذروته حين طرحت الحركات الإسلامية شعارها الأحادي «الإسلام هو الحل». الباحث السوداني الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد، درس مليّاً هذا الجانب في الفكر الإسلامي. في«الحاكمية» (دار الساقي)، كتابه الثاني المنشور بعد وفاته، يقترح تمييزاً معرفياً لمصطلح الحاكمية. من خلال استقراء لتدرجها في النص الديني، وفي الممارسات التاريخيّة، يصل الباحث إلى تحديد ثلاثة أنماط لها: الحاكميّة الإلهيّة، ثمّ الاستخلافيّة فالبشريّة. يتجلّى المستوى الأوّل في الخطاب الإلهي الموجّه لموسى، لنصل إلى قيادة الأمّة وفقاً للفقه الإسلامي في المستوى الثالث.
وفي تفاصيل هذا التشريح، اتخذ مفهوم الحاكميّة إطاراً سياسياً عند دعاته من أمثال المودودي، وسيد قطب، والإمام الخميني، وحسن البنّا، ومثّل ذروة التدرج الديني لتدخل المطلق في أفعال البشر. انطلقت مقاربات هؤلاء جميعاً من رؤية جبرية، أسقطت حرية الإنسان وتدبيره لشؤون حياته في السياسة والاجتماع والعلاقة مع الذات. اتجهت الحاكميّة إثر طفرة الإسلام الحركي ــــ بعد إلغاء الخلافة عام 1924 ــــ نحو مزيد من التنصيص. وما إن أصبح المسلمون على أرض بلا دولة، حتى توالت الاتجاهات الداعية للأخذ بالأنظمة الغربية وتكييفها مع الإسلام، أو المناداة بتطبيق الشريعة الإسلامية. الجديد الذي قدمه الكاتب السوداني الراحل في بحثه هذا، يتأسس على تساؤلين: متى مارس الله الحاكمية الإلهية؟ وماذا تعني الحاكمية الإلهية في القرآن؟
رؤية جبرية أسقطت حرية الإنسان في تدبير شؤون حياته في السياسة والاجتماع والعلاقة مع الذات
مع إله العبرانيين، تجلّت الحاكمية مباشرة: المقدس تتالى نحو الدنيوي وقاد حركته، وكان للخطاب الإلهي ترادف زمني رافق اليهود منذ سفر الخروج. وإذا توقفنا أمام تجربة سيّد قطب، نجد أنّ الأخير صاغ أكثر الخلاصات تأثيراً في الإسلام الراديكالي، استناداً إلى بعض ما ورد في القرآن من آيات حول الحاكمية بمعناها السياسي والشمولي. بعد محنته مع النظام الناصري، أصبح النظام العلماني بالنسبة إلى قطب مساوياً للطاغوت الذي يعني الاستبداد طبقاً للفهم الأصولي.
يستشهد حاج حمد بالقراءة التي وضعها محمد عمارة للأيديولوجيا الحاكمية، ويصل إلى «أنّ القائلين بالحاكمية صوّروا الإسلام ودولته، ثيوقراطية، الأمة فيها مجردة تماماً من جميع السلطات». ولعلَّ خلاصات قطب تعتبر امتداداً لأزمة الفكر السياسي الإسلامي الذي يفتقد نصاً دينياً صريحاً يحدد ماهية الدولة، أو الخلافة المنشودة، في ما يتعدى منطق «وأمرهم شورى بينهم». بذلك أُسقط التاريخ على النص، فاجترح الأصوليون نظريّاتهم وأسّسوا لما يعرف بالآداب السلطانية، أو آداب المرايا، التي تُحيل السلطة برمتها إما إلى الخليفة أو إلى الإمام.
لكنّ الإشكالية في المدرسة القطبية التي تمثل امتداداً لفوضى الإسلام السياسي ــــ أي الإسلام التاريخي وليس إسلام النص ــــ أنّها لم تر العالم إلا من مرآتها. هكذا، دعت إلى إقامة مدينتها الفاضلة بإقصاء التعدّد، وتكفير الأنظمة والمجتمع، وتعميم الجاهلية. وها هو صاحب «معالم في الطريق» يقول: «لا بد من تحطيم مملكة البشر، لإقامة مملكة الله على الأرض. ومملكة الله على الأرض، لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم، لكنّها تقوم بانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد، ورده إلى الله وحده، وسيادة الشريعة الإلهية وإلغاء القوانين البشرية».
يقيم الباحث تفريقاً إبستيمولوجياً، بين الحاكمية الإلهية وحاكمية الاستخلاف. وفي الأخيرة، يجتمع المُلك مع النبوة. أمّا الأولى، فترتبط بعلاقة العبرانيين مع الخطاب الإلهي، إلى درجة يظهر النص مفارقاً أو مستقلاً عن التاريخ. وبصرف النظر عن مدى سطوة الأسطورة والروايات عند غالبية النصوص المقدسة، إلا أنّ هذا التفريق يبدو مقبولاً. بعدما دشّن إله التلمود مملكته على الأرض من خلال خطاب مُنزل إلى موسى على قاعدة التكليف، بدأ التحول في مطالبة اليهود بحاكمية الاستخلاف، أي إنّ تدخّل الله ما عاد مباشراً، ما أفضى إلى تأسيس المُلك مع كل من داوود وسليمان.
يقرأ الكاتب الراحل مسألة الحاكمية من منظار ديني، ويتجنّب مقاربتها من الناحية العلمية. فهو من جهة لا يقارع عقائد الأصوليين على الجبهة الإسلامية، ومن جهة أخرى يستشهد بالكثير من الآيات القرآنية من دون تقديم قراءة جديدة تفارق التلاوة الإنشائيّة. هكذا يخلص إلى أنماط الحاكميّة الثلاثة المذكورة آنفاً: الحاكمية الإلهية التي مورست على بني إسرائيل منذ إخراجهم من الأسر الفرعوني ـــ الحاكمية الاستخلافية التي كانت في بني إسرائيل على عهد داوود وسليمان، وليس لها علاقة بالإسلام ـــ الحاكمية البشرية بتأسيسها على يد الرسول جاعلةً منهجها القرآن.
يتساءل الكاتب السوداني لماذا لم يمنح الرسول مؤسسات للدولة الإسلامية ويقرر أشكال الحكم فيها؟ ولماذا لم يستخلف من يليه؟ ويجيب لو فعل ذلك لقضى على مفهوم الحاكمية البشرية التي تعود سلطتها إلى الأمة عبر الاختيار الحر والشورى.
لا شكّ في أن محمد أبو القاسم حاج حمد يسعى إلى الخروج بمادة جادة، تضع الحاكمية في سياقها التاريخي المتدرج. نجده وقد نجح نسبياً في ضبط فرضياته بغية الفصل بين تدخل الله في التاريخ عند العبرانيين من جهة، وجعل التاريخ عنصراً محدداً لمسيرة الجماعة وشؤونها الدنيويّة في الإسلام من جهة أخرى. لكن، حبّذا لو أنّه ضمّن صفحات الكتاب، وجهة نظر تحليلية للأطر العقائدية التي صاغها القائلون بالحاكمية، بدءاً من أبي الأعلى المودودي. هذا الغياب أفقد البحث قدرته على محاكاة قارئه لأسباب عدة، أبرزها سطوة النهج الذاتي على ما عداه من مناهج استنطاق النص. لو فعل، رحمه الله، لأضفى بعداً نقديّاً، ولترك لنا دراسة أكثر إقناعاً من الناحية المنهجية.