من «غيفارا مات» إلى «أنا بكره إسرائيل»بعد السبعينيات والثمانينيات، اغتربت الأغنية السياسيّة عن الواقع. التجارب في فلسطين ومصر ولبنان تنفصل غالباً عن مزاج الشارع

هالة نهرا
الشارع الذي لطالما حرّكه صوت الشيخ إمام، لم تعد تخاطبه الأغنية الملتزمة. في ظلّ تغيّر المعطيات السياسية والأذواق الفنيّة، يبدو السؤال عن معنى الأغنية الملتزمة اليوم ضرورياً. وضع هذه الأغنية يشبه حالة المجتمع العربي الممزّق. معظم المستمرّين في إنتاجها منسلّون من مناخ اليسار، المدافع عن القضيّة الفلسطينيّة (زياد الرحباني ومرسيل خليفة وخالد الهبر وأحمد قعبور وسامي حوّاط وسميح شقير...)... أمّا التجارب الشبابية الملتزمة، فخارجة من رحم الأغنية العربية المعاصرة والروك والراب.
خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية (أيلول/ سبتمبر 2000)، مثّل الراب استنكاراً صارخاً لممارسات الاحتلال الإسرائيلي. برزت في الأراضي المحتلّة فرق مثل «دام» (اللد)، و«أولاد الجنّة» (حيفا)، و«أبناء الغضب» (الضفّة الغربية)، و«جي تاون» (القدس). مع «كتيبة 5» وسواها انتشر الراب الفلسطيني أيضاً في المخيّمات في لبنان، ليعكس وطأة الصراع العربي الإسرائيلي على جيل بأكمله. ونجده يتطرّق إلى قضايا اجتماعية واقتصادية (حقوق المرأة والمخدّرات والفقر...).
لكنّ هذا النوع من «الغناء الملتزم»، هو في طبيعته غير قابل للتنغيم، باستثناء خلفيّته الموسيقية background. فهل يمكن إلحاقه بالأغنية الملتزمة، رغم أهمّية طروحاته؟ مؤدّوه يبالغون أحياناً في النطق المشدّد المنسوخ عن الراب الغربي. وإذا استثنينا معاني كلماته الثائرة، لا نجده يضيف خصوصية موسيقية عربية ما. في مجال الروك الفلسطيني،نشير إلى فرقة «مربّع» (غزّة) التي تتغنّى بالمقاومة والنصر. أمّا ألوان التراث والفولكلور وأغاني ريم بنّا وأمل مرقص وريم تلحمي، فتبيّن كلّها مدى التشبّث بالهوية العربية داخل الخطّ الأخضر.
يمكن أيّ أغنية متقنة وتجديدية أن تندرج في خانة الالتزام
في مصر، تعدّ أغاني شعبان عبد الرحيم الأكثر شعبيةً. فيما يتميّز علي الحجّار عن صاحب «أنا بكره إسرائيل» باحترافيّته وأصالته، رغم إسهابه في الزخرفة الصوتية. وقد ظهر أخيراً نمطٌ جديد من الأغنية الملتزمة، ينتصر لصورة وهمية تتناقض مع واقع النظام والمجتمع، وفق الباحثة المصرية سمحة الخولي. فـ«أغاني محمد منير لم تنبع من حسّ قومي صادق في زمن الخيبة»، ما أدّى إلى انفصام مرحلي بين الأغنية الملتزمة والشارع.
لعلّ تحوّل الأغنية الوطنية إلى موضة ينمّ عن ميل راهن إلى تسطيح الفن الملتزم. فعندما غنّت نانسي عجرم «لو سألتك إنت مصري تقولّي إيه»، اندفعت المصرية شيرين عبد الوهاب لتأدية «ما شْرِبْتش من نيلها». في لبنان، تتأرجح التجارب الشبابية بين الأغنية الجادّة والواعدة (غدي وأسامة الرحباني وبشّار خليفة وزياد سحّاب وريان الهبر) والاستهلاكية (عاصي الحلّاني وراغب علامة وزين العمر...). أما الأغنية السياسيّة، أو الأغنية الملتزمة، بالمعنى المقترن في العقود الماضية... فإنّها لم تتجدّد منذ زمن، وبعضنا ينتظر سدىً ولادتها الجديدة...
منذ رحيل الشيخ إمام، اجتهدت فِرَق عربية («إسكندريلا» وفرقة «الطمي» المسرحية مثلاً) في إحياء تراثه. بعد 15 عاماً على غياب صاحب «غيفارا مات»، لا بدّ من البحث عن دوافع هذه الاستعادة. رغم بروز بعض النماذج المضيئة، فإنّ الأغنيات السائدة لم تروِ عطش الجمهور. ما زال أعلام الأغنية الملتزمة السابقون يجسّدون روحها المتلفّفة بحقيقة الالتزام الفنّي. إنّه التزام تجاه الفنّ نفسه و«ليس التزاماً اجتماعياً»، وفق محمود درويش. فـ«النصّ الشعري وإن كان ينبع من الواقع، فإنّه يتأسّس جماليّاً، وليس أسير شروطه الخارجية». هذا ما ينطبق على الأغنية التي تؤدّي عناصرها الثلاثة (الشعر واللحن والمؤدّي) دوراً مهمّاً في إنجاحها. وقد يؤدّي أيّ اختلال في مقوّماتها إلى إضعافها. لذلك، فالتزام سيّد درويش والأخوين الرحباني وأم كلثوم ومحمّد عبد الوهاب والشيخ إمام ومرسيل خليفة وزياد الرحباني (وغيرهم) تجاه القيمة الفنيّة لأعمالهم، زوّد أغنياتهم بآفاق أخرى. انطلاقاً من هنا، يمكن أيّ أغنية متقنة وتجديدية أن تندرج في خانة الالتزام. لعلّ الالتزام الذي يتّسع ليشمل النزويّ والجسدي والرمزي والمجازي... لا ينتهي فقط عند الالتزام بالقضايا الطبقية والثورية والسياسيّة.