المخرجة الفلسطينية ورسام الكاريكاتور الأردني اجتمعا في «مكان»، لمحاولة تفكيك سطوة الرقابة على الإعلام والإبداع، من زاوية تواطؤنا معها، وتنازلاتنا الصغيرة في مواجهتها
عمّان ـــ أحمد الزعتري
عندما نعرف أن 95 في المئة من الصحافيين الأردنيين يمارسون الرقابة الذاتيّة، قد يكون من الأجدى التفتيش عمّن زرع فيهم ذلك الهاجس. وعندما يبادر فنانان إلى البحث عن شكل هذا الرقيب، فإن الطريق إليه تمرّ حتماً في نفسيهما. تعمّدت المخرجة الفلسطينيّة آن ماري جاسر (ملح هذا البحر)، ورسام الكاريكاتور الأردنيّ نضال الخيري تشويه شكل الرقيب، من خلال اللعب على مفهوم الرقابة الذاتية...
في المعرض المشترك الذي نظّمه الفنان الأميركي إيريك غوتسمان في فضاء «مكان» (عمّان)، بادر كلّ منهما إلى تشريح فكرة الرقابة. عنوان المعرض المفترض، اختفى تحت طبقات سميكة من الحبر الأسود، في إحالة إلى خيار رقابي ما. طلبت جاسر إلى عدد من الكتاب من صحافيين ومدوّنين، كتابة ما يؤرقهم لجريدة وهميّة تحت اسم «الحقّ». كانت النتيجة مقالات غاضبة تتعلّق معظمها بمواضيع سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة نشرت على جدران المعرض الأربعة، كأنها ليست إلا بوسترات ثوريّة مارس أصحابها حقّهم في النشر خارج حظيرة السلطة. نقرأ مقالات عن بعبع «الوطن البديل»، وعن سياسة خصخصة المؤسسات الرسميّة... وفي حجّة «التمرين» على الرقابة الذاتيّة، عمد الكتّاب أنفسهم إلى تظليل وقصّ الكلمات التي يعتقدون أنها تخترق الخطوط الحمر المعترف بها ضمنيّاً. ولأنه يجب على هذه القصاصات أن تحفظ في مكان ما من عالمنا المقموع، فهي لن تجد لها مكاناً إلا على طاولة الرقيب الغائب. لقد ترك الأخير أدوات صنعته على الطاولة: منفضة سجائر، وكوب قهوة، وسترة رسميّة بنيّة متروكة على ظهر الكرسي... من دون أن ننسى المقصّ طبعاً. أليست هذه صورة كلاسيكيّة للرقيب؟ أليس هناك رقيب يعبث يومياً ببريدنا الإلكترونيّ، ومحادثاتنا الخاصة؟ ثمّة من يشبهنا على الطرف الآخر من الخطّ... فمن هو؟ هذا ما تحاول جاسر اكتشافه، متسائلةً: «هل الرقيب مزروع في الكتّاب أنفسهم؟ (...) أم أن صورة الرقيب هي صورة النظام نفسه، وهذه التفاصيل (القصاصات والتظليل) هي التي تشكّل صورته؟».
وإذا كانت جاسر تطرح الأسئلة العامة، فإن نضال الخيري يقترب من الرقيب الأردنيّ بحكم علاقته مع الصحافة والصحافيين، وأمنيته الأزليّة بأن يعمل في الصحافة الأردنيّة. وعلى الجدار المقابل لمكتب الرقيب المتخيّل، رسم الخيري ذلك الرجل كما يتصوّره في «دائرة المطبوعات والنحر». الرقيب هنا يجلس على مقعده، ويستعدّ لنحر خراف ثلاثة، متسلحاً بساطوره. ومن فوقه تدلّت ذبيحتان مفروغ من أمرهما، وهما صحيفتا «الرأي» الرسميّة، و«الدستور» شبه الرسميّة.
ولأن تصوير رقيب بصيغة مباشرة، قد لا يشبع رغبتنا في تشويهه على نحو كافٍ، فقد احتلّت سلسلة «كوميكس» جداراً آخر، تحكي قصّة صحافيّ يتعرّض لضغوط عائليّة ورسميّة، إضافة إلى رئيس عمله كي يتراجع عن نشر تحقيق يدور حول سؤال محدد هو: «لماذا لا يبيض الدجاج؟». يقول الخيري إنّه استوحى هذه القصة من قضيّة فصل رسام الكاريكاتور عماد حجّاج من جريدة «الرأي»، بعد نشره كاريكاتوراً ينتقد حملة إعلانيّة لكبرى شركات الاتصالات في الأردن.
يسعنا القول ختاماً إن جاسر والخيري حققا هدفهما، ألا وهو خرق الحدود المفروضة (أردنيّاً على الأقل). إنها المرة الأولى التي يُقتصّ فيها من الجريدتين الرسميتين بالإشارة إليهما بـ«الرغي» و«المستور». لكن اللعبة انقلبت على أصحابها، إذ سمع الخيري نصيحة محامي «مكان»، وابتعد عن انتقاد جريدة «الغد» التي بدأت مسيرتها بالليبراليّة، وتحوّلت لتصبح جريدة محافظة سياسيّاً. ومن المتوقّع أن يستضيف فضاء «مكان» فنانين وصحافيين وناشطين في حوار يوم الاثنين المقبل 4 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، للحديث عن «مقاومة الرقابة الذاتيّة». ربّما سيتوقّف المتناقشون عند عبارة إدوار سعيد التي استعادها المعرض: «التضامن قبل النقد يعني نهاية النقد»، ويبحثون عن سبل تحويل الرقيب القابع في كلّ منّا إلى ناقد.

حتى 6 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل ـــ «مكان» (عمان ـــ الأردن). للاستعلام: 0096264631969
www.makanhouse.net