ماهر أبي سمرا: وقائع هزيمة معلنةبيار أبي صعب
بعد تجارب أساسيّة، مثل «نساء حزب الله» (٢٠٠٠) و«دوّار شاتيلا» (٢٠٠٤)، ها هو ماهر أبي سمرا يحقق فيلمه الشخصي. في «شيوعيين كنّا»، لا يستعيد المؤلّف ماضيه السياسي فقط في ضوء الراهن الملتبس، بل أيضاً حكاية جيله، من خلال مسيرته السينمائيّة والفرديّة الحميمة. بشار عبد الصمد، حسين أيوب، إبراهيم الأمين، والمخرج نفسه: أربعة رفاق قدامى، جمعهم النضال في إحدى خلايا الحزب الشيوعي اللبناني، ذات مرّة قبل الطوفان. ثم تداعت الأوهام، واصطدمت التجربة بالطريق المسدود، ومضى كل في سبيله. وقد جعلهم ماهر يلتقون مجدداً، ليستعيدوا ذلك الماضي «الممنوع». ليس الالتفات إلى الوراء سهلاً، ولا العودة إلى تلك المرحلة البطوليّة، بأحلامها المجهضة وأسئلتها المعلّقة التي تضعنا وجهاً لوجه مع الراهن الحارق.
يحاول المخرج الإحاطة بأسباب انحسار الحزب اليساري الذي ترك نفسه «أداة بيد الطوائف»، كما يقول. لكنّه يسلّط الضوء على مصائر فرديّة في زمن الردات وعودة «الجان» واكتساح الحجاب قريته الجنوبيّة. نضيع في التعاطي مع ماهر أبي سمرا، مؤلفاً يتحكم باللعبة، أو شخصيّة هي طرف في عمليّة الاستعادة النقديّة. ونحار مَن نناقش أمام كليشيهات حزب الله، التي لا تأخذ في الاعتبار تعقيدات هذه الكتلة السياسيّة والاجتماعيّة، وتطوّرها وإنجازاتها منذ أواسط الثمانينيات. الشخصيّات الأربع التي باتت تجد في «الريف» مساحة طمأنينة، تنظر بأشكال مختلفة إلى القضيّة الجوهريّة: مواجهة إسرائيل الآن وهنا. لكن الفيلم، وهنا تراجيديّته بالمعنى الإغريقي، يراوح عند السؤال الأصلي: كيف انتقلت المقاومة إلى حزب الله؟ وكيف يمكن أن يتعايش مثقف يساري علماني مع فكرة هذا الحزب؟
الجرح المفتوح الذي بنى عليه ماهر عمله، قد يلتقي على ضفتيه اليوم أفراد مختلفون تجمع بينهم ثوابت أساسيّة، رغم أنّهم يقفون في خنادق متواجهة. إنّهم أيتام المشروع النهضوي التقدّمي الذي آمن بالتحرّر والتغيير والعدالة والتنوير. عادت الطوائف (والمذاهب) فحاصرت أفقهم، أو أغرقتهم في رمالها المتحرّكة. باشتغاله على الذاكرة، يندرج الفيلم ضمن مشروع «أركيولوجيا الحرب اللبنانيّة»، إلى جانب مبدعين من أجيال شتّى، اختاروا طرح الأسئلة الموجعة المتأرجحة بين الخاص والعام.
ويتميّز الفيلم بلغته الفنيّة، أي قالبه السردي وإيقاعه ومؤثراته وبنيته. يعرّف المخرج بالشخصيات في لقطات مقرّبة على خلفيّة محايدة، ثم يجمعها في لقاء تمهيدي حول خريطة بيروت... صوت المؤلّف الذي يقودنا في مساره الشخصي ترافقه صور أرشيف ولقطات فنيّة ومقتطفات من أعماله، يتقاطع مع مونولوغات الشخصيات الأربع في السيارة العائدة إلى القرية... من دون أن ننسى المشاهد التغريبيّة مثل الصور المتعددة في المرايا لفتيات وهنّ يلبسن الحجاب الملوّن...

أربعة رفاق قدامى يستعيدون نضالهم ذات مرّة قبل الطوفان

وهناك مشهد الذروة، المسرحي بامتياز، على طريقة لارس فون تراير في «دوغفيل». يستعيد المخرج المعارك التي سبقت دخول الجيش السوري إلى بيروت عام ١٩٨٧، وقاتل هو ورافقه خلالها على جبهة الجامعة العربيّة. يجلس المناضلون الأربعة مع مسؤولهم صامتين، على كراس توزّعت فوق خريطة مؤسلبة مرسومة على أرض البهو الكبير، تمثّل أرض المواجهة. وقبالتهم على الجدران صور الحيّ الذي مثّل موقعاً مهمّاً للحزب. فيما نسمع أصواتهم آتية من مكان آخر لتروي فصول تلك الهزيمة المعلنة.
يعيد «شيوعيين كنّا» إلى الأذهان فيلم «كم أحببناك عزيزتي الثورة» الذي حقّقه دانيال كوهين ـــ بنديت، عام ١٩٨٥، عن قيادات أيار/ مايو ٦٨، وخيبات العمل الثوري في فرنسا وأوروبا. كان الشريط بداية توبة المناضل الفوضوي، وانتقاله من صفوف الاحتجاج، إلى موقع السلطة. أما ماهر أبي سمرا، فلا يفعل سوى أن يعلن يأسه، ويؤكد من موقع «الدجاجة» التي تبحث عن أمان (بتعبيره)، استحالة أي تغيير في لبنان... على المدى المنظور!