«خارجون عن القانون»: حرب الجزائر وجراحهاباريس ــ عثمان تزغارت
عاد الجدل ليحتدم في فرنسا مع بدء العروض التجارية لفيلم «خارجون عن القانون» للمخرج الجزائري رشيد بوشارب. لم يقتصر الأمر على الجدل الإعلامي والنقدي، بل بلغ حد تعطيل العرض الرسمي للفيلم في مارسيليا وسط تظاهرات احتجاج نظمتها جمعيات «قدامى المحاربين» الفرنسيين في الجزائر. وكانت تظاهرات مشابهة احتشدت خلال «مهرجان كان» الأخير، احتجاجاً على عرض الفيلم في «المسابقة الرسمية» («الأخبار» ــــ عدد 24 أيار/ مايو 2010).
اللافت أنّ الانتقادات التي انهالت على الفيلم، حتى على صفحات أعرق وسائل الإعلام الفرنسية، لم تهتم بقيمته الفنية، بل دارت حول إشكالية واحدة تتعلق بمدى صدقية أو موضوعية التهم الموجهة إليه. إذ قيل إنّه يقوم بـ«تزوير الحقائق» و«تحريف التاريخ» و«معاداة فرنسا»! من يتابع النبرة المغالية التي استُقبل بها الفيلم، لا يكاد يصدّق أن مخرجه هو السينمائي ذاته الذي حقّق الإجماع في فرنسا قبل أربع سنوات، حين قدّم فيلمه «بلديون» Indigènes الذي أعاد الاعتبار إلى تضحيات المجنّدين المغاربيين في الجيوش الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية. آنذاك، مُنحت جائزة أفضل ممثل في «كان 2006» مناصفة لأبطال الفيلم الأربعة (جمال دبّوز، سامي ناصري، رشدي زاموسامي بوعجيلة). ثم أسهم النجاح التجاري للفيلم في فتح ملف إشكالي يتعلق بالتمييز الذي عانى منه المحاربون القدامى المنحدرون من المغرب العربي. فهؤلاء كانوا حتى الأمس القريب يتقاضون من الجيش مرتبات تقاعد هي أقل من تلك التي يتقاضاها أقرانهم الفرنسيون. وإذا بالرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك يعلن، على هامش عرض خاص للفيلم نُظّم في قصر الإليزيه، مرسوماً رئاسياً يضع حداً لذلك الإجحاف الذي دام نصف قرن. واعترافاً بإسهام بوشارب في «تصحيح إحدى أسوأ المظالم في التاريخ الفرنسي ـــ المغاربي» المشترك، قلّد وسام الاستحقاق الوطني الفرنسي برتبة فارس. ثم نال «جائزة هنري جونسون» التي تمنحها الجمعية الفرنسية للمؤلفين والملحنين عن مجمل أعماله (2007).
لكن رد الفعل جاء مناقضاً، حين قرّر صاحب «غبار الحياة» التصدي لجانب آخر من مظالم «التاريخ الفرنسي ـــ المغاربي المشترك». ففتحت عليه النيران من كل صوب، ما إن أعلن موضوعه الشائك في ربيع 2008. يصوّر الفيلم كيف تحوّل المحاربون المغاربيون الذين قاتلوا في الجيش الفرنسي، إلى متمردين «خارجين عن القانون» في صفوف حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار.
في «خارجون عن القانون»، يضع بوشارب اليد على جرح غائر في ذاكرة الجمعية الفرنسية، يتعلق بالمسكوت عنه من جرائم الحرب الفرنسية في المستعمرات السابقة. ما يفسّر الهجمات التي طاولت الفيلم قبل أشهر من اكتمال تصويره. بدأ الجدل بتسريب مضمون تقرير سري لـ«لجنة التاريخ» في وزارة الدفاع الفرنسية، يحذّر من أن الفيلم يقوم بـ«تزوير التاريخ... علماً بأنّ أعضاء تلك اللجنة العسكرية اعترفوا لاحقاً بأنّهم لم يشاهدوا الفيلم، بل حصلوا فقط على ملخّص لقصّته!
إلا أنّ مواقع اليمين المتطرف الفرنسي تلقّفت القضية، وصعّدت الحملة ضد بوشارب. وإذا بنائب من الأغلبية الرئاسية، هو ليونيل لوكا (النائب الشهير ذاته الذي اقترح «قانون محاسن الاستعمار» عام 2005)، يرفع عريضة مستعجلة إلى البرلمان الفرنسي تطالب بسحب الفيلم من «كان»! وبينما تفادى وزير الثقافة فريدريك ميتران، الوقوع في فخ هذه المكارثية، قائلاً

ينتقد الفيلم أيضاً «جبهة التحرير» ونهجها المتشدد ضد المدنيين الجزائريين أثناء الحرب

إنّه يرفض الحكم على فيلم لم يشاهده أحد، جاءت المفاجأة من قصر الإليزيه، حين طلب الرئيس الحالي نيكولا ساركوزي من منتج الفيلم تنظيم عرض خاص في قصر الرئاسة قبل ذهاب الفيلم إلى الكروازيت، أسوة بما فعله رئيس الحكومة الروسي فلاديمير بوتين، حين اشترط تنظيم عرض خاص لفيلم «الشمس المخادعة ـــ 2» لنيكيتا ميخالكوف في الكرملين، قبل إجازة مشاركته «كان»! لكن منتج «خارجون عن القانون»، جون بريا ردّ يومها على مستشاري الرئيس قائلاً: «من يرد مشاهدة الفيلم، فما عليه إلا أن يأتي إلى الكروازيت».
بعد عرض الفيلم في «كان»، تراجعت الانتقادات، إذ اكتشف من شاهده أنّ شريط بوشارب أبعد ما يكون عن «البروباغندا التحريفية». الفيلم يروي قصة ذات نفس إنساني تتناول ثلاثة أشقّاء جزائريين تمزّقهم الحرب: أحدهم ينخرط في «جبهة التحرير»، والثاني يقرّر بعد تسريحه من الجيش الفرنسي اعتزال السلاح والتفرغ لعائلته، بينما يضيع الثالث في عالم اللهو ويدير ملهىً ليلياً.
لكن تجدر الإشارة إلى أن النقد لا يقتصر على فرنسا وممارساتها الاستعماريّة، من خلال أربع دقائق في بداية الفيلم تصوّر «مجازر سطيف» الشهيرة التي أودت بـ 45 ألف مدني جزائري في أيار (مايو) 1945. فقد اتّسم الفيلم بنظرة نقدية جريئة لنهج «جبهة التحرير» الجزائرية المتشدد ضد المدنيين الجزائريين أثناء حرب التحرير، والتصفيات الدموية التي نفذها «قادة الثورة» ضد بقية فصائل الحركة الوطنية الجزائرية. مع ذلك، لم يفوّت اليمين الفرنسي الفرصة لإعادة إشعال الجدل، مع بدء العروض التجارية للفيلم. وإذا بجزء من الجمهور الفرنسي لم يشفَ من جراح التاريخ القريب، ولم ينضج بعض كي ينظر الى نفسه في المرآة...