لقاء يتيم جمع المفكّر العقلاني بـ«عميد الرواية العربية» في عام 2003، يوم جاء القاهرة زائراً بعد 8 سنوات من النفي...
القاهرة ــ محمد شعير
هناك لقاء نادر حصل بين الراحلين نصر حامد أبو زيد ونجيب محفوظ، شاء الحظ أن نكون بين الشاهدين عليه. كان ذاك اللقاء الأول بين الرجلين في أحد أيام كانون الأول (ديسمبر) 2003. يومها زار أبو زيد القاهرة بعد 8 سنوات من النفي إلى هولندا. جاء ليحتفل بعيد ميلاده الستين و«يسوّي» أوراقه في «جامعةالقاهرة».
رحلة أبو زيد إلى مصر في شتاء 2003 لم تستمر طويلاً. لم يعدّها عودةً بل زيارة قصيرة لمواطن أراد لقاء أهله وأصدقائه. زيارة نجحت في كسر حاجز نفسي كبير بين صاحب «التفكير في زمن التكفير» ووطنه. لم تمضِ خمسة أشهر عليها، حتّى حلّ أبو زيد ضيفاً على مؤتمر «الجمعية الفلسفية المصريّة» السنوي. في تلك الزيارة، طلب نصر من بعض أصدقائه لقاء «عميد الرواية العربية» نجيب محفوظ. كان نصر قد تردَّد على ندوة محفوظ في «مقهى ريش»، لكنّهما لم يتبادلا حديثاً منفرداً. في تلك المرّة، جاء نصر إلى المقهى مع زوجته الباحثة والأستاذة الجامعية ابتهال يونس. بدأت يونس بالحديث مع محفوظ وذكرته بأن والدها كمال يونس كان زميلاً له في كلية الآداب. فتحدث محفوظ عن زملاء الكلية وحكى عن تلامذة أقسام الفلسفة والتاريخ واللغة الفرنسية.
راح نصر ينصت باهتمام إلى حكايات صاحب الثلاثيّة، قبل أن يبدأ بتوجيه أسئلة حملها معه إلى صاحب «نوبل». سأله بدايةً عن رواية «الحرافيش» وإن كانت صيغة أخرى من «أولاد حارتنا»؟ نفى محفوظ ذلك، قائلاً «إنّهما روايتان منفصلتان». ثمّ بدأ محفوظ يحكي عن لقاء جمعه بأحد شيوخ الأزهر: «جاء لزيارتي في مقهى «علي بابا» قبل جائزة «نوبل»، وتناقشنا طويلاً في رواية «أولاد حارتنا»، وبعدما اقتنع الشيخ بتفسيري للرواية، أخرج من جيبه كراساً وقال «أنا كاتب مسرحية عايزك تقراها وتقولي رأيك».
سأل أبو زيد: «لماذا حدثت ضجة عقب نشر «أولاد حارتنا» ولم تحدث الضجة نفسها عندما كتب توفيق الحكيم روايته «أهل الكهف؟» فأجاب محفوظ: «قد يكون اختلاف الزمن هو السبب، أو قد يكون الحكيم نجح في شرح فكرته أفضل منّي». وتحسَّر محفوظ على الجو الليبرالي في العشرينيات والثلاثينيات، عكس ما هو سائد هذه الأيام.

عدّ «أولاد حارتنا» امتداداً لتيار الإصلاح الديني كما أرساه محمد عبده


بدأت أسئلة أبو زيد كأنّها تصبّ في رغبته في معرفة أسرار أزمة «أولاد حارتنا». هل كان في صدد كتابة شيء عن المصادرة حينها أم عن نجيب محفوظ؟ المهم أنّ محفوظ استفاض يومها في الحديث عن الرواية، وما جرى يوم زار جمال عبد الناصر جريدة «الأهرام» وسأل محفوظ ماذا يكتب. فأجاب (محمد حسنين) هيكل عنه «رواية تودّي في داهية»، ضحك عبد الناصر وقال «تودِّيك أنت».
ثم تحدث أبو زيد باستفاضة عن أزمته مع الجامعة، وكان محفوظ يُنصت باهتمام، ويقطع الحوار أحياناً بـ«قفشة» من قفشاته الساخرة. ودار حوار طويل بين نصر وشهود الجلسة: الروائي جمال الغيطاني، ويوسف القعيد، وزكي سالم حول نظرية الخيال لدى ابن عربي.
تحدّث أبو زيد عن إعلان استوقفه في محطة مترو في باريس. في وسط الملصق الإعلاني غلاف كتاب «نقد العقل المحض»، أحد أشهر كتب الفيلسوف الألماني كانط. والإعلان كان لنوع من حليب الأطفال، وفيه إشارة إلى أنّه إذا شرب الطفل هذا الحليب، فسيصبح قادراً على قراءة أصعب كتب كانط. «المعلن يلعب دوماً على الرموز المعروفة. وهذا يعني أن كانط معروف عند غالبية الفرنسيين. وهذا يفسّر أيضاً أنَّ أغلب إعلاناتنا تركّز على الراقصات باعتبار أن هذا ما نعرفه. فهل يمكن أن تتصدّر صورة طه حسين أحد إعلاناتنا؟»، سأل أبو زيد.
قبل أن ينصرف، تحدّث صاحب «نقد الخطاب الديني» عن الحرية الأكاديمية في الغرب مقارنة بالجامعات المصريّة. لكنّ تأملاته بشأن «أولاد حارتنا» في ذلك اللقاء لم تنتهِ. بعد ثلاث سنوات، كتب في وداع محفوظ مقالاً بعنوان «المقاوم العظيم»، موضحاً أن «أولاد حارتنا» كانت «التعبير الأدبي عن تيار عميق الجذور في الفكر العربي المصري الحديث، وهو تيار يمتد إلى محمد عبده رائد الإصلاح الديني الحديث بلا منازع».