Strong>روايته الثالثة Zone دخلت المكتبة العربيّةشهرة «زون» سبقتها إلى لغة الضاد. في روايته «غير القابلة للترجمة» ــ بحسب معرّبتها ماري طوق ــ يتعقّب الكاتب الفرنسي بطله بين ميلانو وروما. إنّها رحلة جاسوس، بين محطّات التاريخ العاصف لحوض المتوسط. السرد لا يعرف علامات الوقف، مثل هذيان الراوي المسكون بجرائم الحرب ودوامات العنف المتعاقبة

زينب مرعي
تيمّناً بإلياذة هوميروس، أنجز ماتياس إينار (1972) في روايته الثالثة «زون» Zone («أكت سود»، 2008)، ملحمةً من أربعة وعشرين فصلاً. يعيد الكاتب الفرنسي جمع شمل كبير آلهة الإغريق زوس، وإله الحرب آريس، وإله الجحيم هادس في إلياذة معاصرة. تتضافر جهود الآلهة كي يغفل الراوي والبطل فرنسيس سيرفين ميركوفيتش عن موعد طائرته من ميلانو إلى روما، فيضطر إلى ركوب القطار، ليقوم بما يشبه رحلة إلى الجحيم.
حازت الرواية جوائز عدّة، منها جائزة «قدموس 2008» التي يمنحها «معرض الكتاب الفرنكوفوني» في بيروت، وتقضي بنقل العمل الفائز إلى لغة الضاد. هكذا وجد المجلّد الضخم ذو الصفحات الخمسمئة طريقه إلى المكتبة العربيّة عن دار «المكتبة الشرقيّة» بفضل الجهد الدؤوب واللافت الذي بذلته ماري طوق. المترجمة التي نقلت العام الماضي «المثقفون» لسيمون دو بوفار عن «دار الآداب»، قررت أن تحافظ في النسخة العربية على العنوان الفرنسي للرواية «زون» (ترجمتها الحرفيّة «منطقة»). فقد أصبحت الكلمة «متداولةً» برأيها، و«لن يجد القارئ العربي صعوبة لفهمها». كذلك، إنّ العنوان مأخوذ في الأساس عن قصيدة الشاعر الفرنسي غيوم أبولينير «زون» التي يفتتح فيها ديوانه «كحول» (1913). القصيدة نشيد عن بزوغ القرن العشرين، باكتشافاته وانكساراته. يستعير إينار في روايته روحيّة القصيدة النبوءة، ليكتب ملحمة بطلها القرن الماضي، بحروبه ودوامات العنف العديدة التي شهدها.
تتألف «منطقة» إينار من جملة واحدة تمتد كخط القطار المستقيم، من دون علامة وقف، منذ الكلمة الأولى، وصولاً إلى الأخيرة التي تليها نقطة النهاية. جملة أمضى صاحبها ثماني سنوات لإنهائها. أمام هذه المعضلة، طرحت صعوبة ترجمة الكتاب نفسها منذ البداية. الآن، بعد خوضها التحدي، تقرّ ماري طوق بأنّ «زون» تكاد تكون «رواية غير قابلة للترجمة، لناحية شكلها السردي الذي يتطلّب أن تتبع خيط هذيان الراوي، وهو هذيان لعقل واع في معظم الوقت».
نجحت ماري طوق في نقل عنف الكتابة، وأسبغ البحث على عملها قيمة علميّة وأدبيّة مضافة
في رحلة هذيانه، يتنقّل الكاتب في ذاكرته من حرب إلى أخرى، من طريق خلق التشابيه والاستعارات، كأنّه يروي محادثةً طويلة، لا ينقطع نفَس راويها. في جملة إينار، تتساوى كلّ الأحداث في الأهميّة. خيار يعزز مناخ اللامبالاة المحايدة أمام مشاهد تشبه نهاية العالم. تظهر علامات الوقف في فصول قليلة، حين يجد ميركوفيتش الوقت ليقرأ من رواية الكاتب اللبناني المتخيّل رافاييل كحلا. يحاكي السرد مسير القطار، ويخرج كسيل الأفكار التي تجتاح رأس ميركوفيتش. نكتشف أنّ البطل الراوي عميل للاستخبارات الفرنسية، يحاول تنفيذ مهمّته الأخيرة عند المحطّة المقبلة لقطاره، وهي مدينة روما. أمام الصور التي تتراءى له من نافذة القطار، يتذكّر الراوي حرب البلقان (1991) التي شارك فيها مقاتلاً، ثم انتقاله للعمل كأحد «رجال الظلّ» لـ15 سنة في منطقة المتوسط، بدءاً من الجزائر، وصولاً إلى جميع بلدان المنطقة. حصيلة سنوات عمله الطويلة مخبراً، يحفظها في حقيبة ينقلها معه ليبيعها إلى موفد من الفاتيكان، على أمل أن يبدأ حياة جديدة من بعدها، بعيداً عن الجاسوسية التي قادته إلى تجّار أسلحة ومخدرات، ومجرمي حروب فارّين... من دون أن يكون هو نفسه بريئاً في هذه الدوّامة.
في رأس ميركوفيتش صور بالغة القسوة عن اغتيالات، وذكريات مجازر في البلقان والجزائر أو حتى في بيروت (من خلال نصّ كحلا)، إضافة إلى المحرقة اليهوديّة والمذبحة الأرمنية... يحكي الراوي كلّ ذلك بدم بارد، بلغة مجرّدة من المشاعر. هنا أشلاء متطايرة، وهناك وصف دقيق لأشكال الموت في ساحات الحرب، وجثث يسودّ لونها تحت الشمس... يبدو الله الغائب الأكبر عن النص، رغم أنّ معظم الحروب المذكورة تخاض بدوافع دينيّة. وحدها قدريّة التراجيديات المحتّمة حاضرة. ليس هناك من يُستنجد به، فزوس وآريس وهادس ستنفذ لعنتها التي تطال الجميع.
يبتعد إينار في سرده لأحداث المنطقة التاريخية عن لغة الاستشراق، هو الباحث والمتخصص في اللغتين الفارسيّة والعربية، الذي عاش سنوات في الشرق الأوسط، بين إيران ولبنان ومصر وسوريا... هكذا، لم تقتصر صعوبة الترجمة على وعورة الشكل السردي. أمام الإحالات الكثيفة إلى محطات تاريخيّة مفصلية شهدها القرن المنصرم، اضطرت طوق إلى إجراء مراجعات وأبحاث طويلة، واستشارة أساتذة في جامعة «السوربون» الفرنسيّة، لزيادة هوامش متنوعة على الطبعة العربيّة، ما لا نجده في النص الفرنسي الأصلي. وما يعطي عملها قيمة علميّة وأدبيّة مضافة.
ومما لا شك فيه، أن الترجمة نجحت في نقل عنف الكتابة، وما يقف خلفها من عنف تاريخي. العمل في مجمله استعادة لتاريخ حوض البحر الأبيض المتوسط منذ الحرب العالميّة الأولى، وصولاً إلى حرب العراق الراهنة، مروراً باحتلال فلسطين وحربي البوسنة ولبنان، ومعارك أخرى من قرون غابرة. تتحوّل عربات القطار فجأة إلى استعارة ضخمة، لأحداث يجرجر بعضها بعضاً منذ الأزل، وصولاً إلى اللحظة الراهنة الغارقة في الدماء. هكذا، يبدو الحاضر في «زون» جزءاً ملوثاً من تاريخ ملوّث ليس إلا.