تأثّرت حركة الشعر العراقي بحالة التشظّي التي عرفتها البلاد منذ أواخر السبعينيات. وفي العام الماضي تأسّس «بيت الشعر» في بغداد، ساعياً بجديّة إلى جمع الشتات... عودة إلى الاحتفاليّة التي احتضنها «مسرح بابل» في بيروت أخيراً، في مناسبة ولادة مجلّة فصليّة تحمل هذا المشروع البديل
حسين بن حمزة
لم يكن تأسيس «بيت الشعر العراقي» في العام الماضي حدثاً عادياً أو عابراً. الواقع أن الشعراء العراقيين هم أحوج شعراء العالم إلى «بيت»، يجمع نبراتهم وطموحاتهم وأسئلتهم الشائكة. بل إن بيوت الشعر وجمعياته في بلدانٍ أخرى، آمنة وسعيدة، تبدو نوعاً من الترف مقارنة بالمعاني الرمزية المتعددة التي يحملها البيت العراقي الجديد.
لقد تشظّى الشعر العراقي مع التشظّي الذي عاشه العراق نفسه ابتداءً من أواخر السبعينيات. خرج مئات الشعراء (ومعهم طبعاً كتّابٌ وفنانون ومفكرون وحزبيون...) إلى المنافي العربية والأجنبية هرباً من بطش النظام وحروبه العبثية.
هكذا، تناهت إلينا، عبر أصواتٍ كثيرة، تراجيديا شعرية كاملة موازية للتراجيديا العراقية المستمرة منذ ذلك الوقت على شكل حروب وحصارات واحتلالات. عاش الشعر العراقي وازدهر في الخارج أكثر مما عاش وازدهر في الداخل. حافظ على تقاليده الأشد صرامةً وتطلّباً من الشعريات العربية الأساسية الأخرى، لكنّه سمح ـــــ في الوقت نفسه ـــــ بتسرّب مذاقات جديدة إلى بعض تجاربه، وخصوصاً تلك التي سعت إلى استثمار النثر وعلاقات المعجم اليومي في إنجاز قصيدة تمسك بجمر الروح الشعرية العراقية وتلجم ضجة المنفى المتصاعدة منها. التشظّي الذي أصاب الشعر العراقي عاق تحقيبه وتعيين اتجاهاته ومشاغل أجياله الجديدة، لكنّه ظلّ خاضعاً لسياقٍ لغوي وتخييلي خاصّ به. ثمة شيء يصعب تحديده بدقة، لكننا لا نتأخر في اكتشافه، والتلذّذ به إذا قرأنا قصيدة عراقية ذات جودة عالية.
لا بد أن أفكاراً كهذه خطرت في بال كثيرين، عراقيين وغير عراقيين، لحظة تأسيس «بيت الشعر العراقي»، وها نحن نستعيدها مجدداً مع القراءات الشعرية التي احتضنها «مسرح بابل» في بيروت قبل أيام، وأُطلق فيها العدد الأول من فصليّة «بيت» الناطقة باسم المولود الجديد.
البيت في بغداد، والاحتفال في بيروت. معادلةٌ لا تخلو من حمولة رمزية واضحة. فإلى بيروت، جاءت أولى الهجرات الشعرية العراقية، ووجدت حياة ثقافية تسمح للغريب بعرض بضاعته إلى جوار البضاعة المحلية. كانت بيروت في تلك الفترة «بابل» شعراء ومثقفين عراقيين وعرب، قبل أن يتكفّل الاجتياح الإسرائيلي بإخراجهم مع المقاتلين الفلسطينيين إلى جهات الدنيا الأربع. فكرة البيت، بهذا المعنى، تمتلك وجاهة إضافية وضرورية. إنها فضاءٌ مجازي لجمع الشعر العراقي الراهن تحت سقف واحد، ومحاولة لرتق الجرح الشعري العراقي بانتظار رتق جرحه السياسي.

لم يُتوقف الشعراء العراقيون عن ارتياد مناطق جديدة في الكتابة
على أي حال، لم يغِب هذان الجرحان عن الأمسية التي تناوب عليها أربعة شعراء قرأوا قصائد تترجم طموحات شعرية شخصية، وتترجم شذراتٍ من الحياة العراقية الغارقة في الخوف والقتل اليوميين. بطريقة ما، نحسّ أن الواقع العراقي يُثقل كاهل شعرائه، ويصعِّب عليهم الإفلات من أسئلة الواقع والتفرّغ لأسئلة الشعر. في أزمنة كهذه، لا يستطيع الفن أن يدير ظهره لما يجري. رغم ذلك، لم يُوقف الشعراء العراقيون سعيهم إلى التجريب، وارتيادهم لمناطق جديدة في الكتابة. وهناك شعراء برعوا في الجمع بين الهمّ الحياتي والهمّ الشعري، وتحويل الأول إلى احتياطي مشهدي وبلاغي خصب للثاني.
ما سمعناه في الأمسية لا يكفي لقراءة نقدية عادلة وصائبة، كما أن قراءةً كهذه ليست أولوية ضاغطة في لحظةٍ تتخذ طابعاً إجرائياً واحتفالياً. لكنّ ذلك لا يُخفي تمايزاً ما لتجربة الشاعر أحمد عبد الحسين الذي يُبدي حرصاً محبّباً على تطعيم القصيدة بمذاق فلسفي يجعل انزياحاتها الشعرية أكثر خلوداً. ممارسة كهذه لم تحضر بالقدر الكافي في تجارب الثلاثة الآخرين، إذْ طغت السيولة الغنائية والدرامية على ما قرأه سهيل نجم، ومالت قصائد حسام السراي إلى إبراز يوميات العنف بلغة مباشرة، بينما بدا محمد ثامر يوسف أكثر خفوتاً ومواربةً في تدوين آلامه العراقية.


تحيّة وسؤالان

يتضح من العدد الأول أن الطموح الأساسي
للمجلة هو إبراز الروح الجديدة في الشعر العراقي، وربطها بالتجارب السابقة. انتماء رئيس تحريرها (أحمد عبد الحسين)، ونائبه (سهيل نجم)، ومدير التحرير (حسام السراي)، إلى المنعطف الراهن للشعر العراقي يبرِّر هذا. لكن ثمة تساؤل عن سرّ تقديم أدونيس للعدد (لا سعدي يوسف مثلاً)؟ وعن نشر قصائد مترجمة لشاعرة إسرائيلية (أبوها من مواليد بغداد)، وخصوصاً أن العدد يخلو من مشاركات غير عراقية؟