النوري بوزيد... «اسكت، عيب!»


حالة الاختناق السياسي التي تحاصر هذا البد المميز لم توفّر الثقافة في السنوات الأخيرة. لكن الذروة كانت منع فيلم جمال مقني في «أيام قرطاج»، ورفض دعم أشهر مخرجي العصر الذهبي، بسبب قضايا أخلاقيّة

عثمان تزغارت
ما الذي يحدث هذه الأيام في موطن بورقيبة؟ خلال الأسابيع القليلة الماضية، واجهت السينما التونسية أزمتين بارزتين مع الرقابة. وهذه سابقة غير معهودة. إذ إنّ النظام التونسي ـــــ رغم كل المآخذ عليه ـــــ يتميّز منذ سنوات طويلة بدعمه للإنتاج الثقافي والفني، ما يفسر النهضة التي شهدتها السينما، المسرح، ـــ خلال العقدين الماضيين ـــ في بلد علي بن عيّاد. لكن كل ذلك، كما يبدو، أصبح مجرد ذكرى من «الماض الذهبي». بعد منع عرض فيلم وثائقي لجمال مقني، المخرج التونسي المقيم في بلجيكا، في مهرجان «أيام قرطاج السينمائية» الذي اختتم أمس، جاء دور السينمائي الكبير النوري بوزيد ليواجه مقص الرقابة. صاحب «صفائح من ذهب»، فوجئ أخيراً بأن اللجنة المكلّفة دعم الإنتاج السينمائي في وزارة الثقافة التونسيّة، رفضت إجازة سيناريو فيلمه «اسكت، عيب!». علماً أن من أبرز أعضاء تلك اللجنة رفيق دربه سابقاً، السينمائي فريد بوغدير الذي كتب بوزيد سيناريو أشهر أفلامه «حلفاوين: عصفور السطح» (جائزة النقاد في مهرجان «كان» ـــــ 1990)! وعلى الرغم من أن النوري بوزيد وجمال مقني ينتميان إلى جيلين (وإلى تيارين سينمائيين) متباعدين، فإن اصطدامهما بالرقابة يكاد يمثّل وجهين لقضيّة واحدة: العملان المحظوران يتناولان قضية حساسة وجديدة على المجتمع التونسي، تتمثل في إقبال أعداد متزايدة من البنات عشية الزواج على إعادة تركيب غشاء البكارة عن طريق الجراحة.
في فيلمه الوثائقي الذي يحمل عنوان Hymen national، يتعمّد جمال مقني التلاعب بالألفاظ، للخلط بين Hymen (غشاء البكارة) وHymne national (أي النشيد الوطني)، للتعبير عن حجم ظاهرة ترميم البكارة في تونس. ويكشف الشريط أن ثلاثة أرباع الفتيات التونسيات اللواتي يصلن إلى سن الزواج يقدمن حالياً على عملية إعادة ترميم البكارة. وهي الظاهرة ذاتها التي يريد النوري بوزيد تسليط الضوء عليها في مشروع فيلمه الروائي «اسكت، عيب!». ويبرز إلى أي مدى تمثّل هذه الظاهرة ردّة فكرية مفاجئة في موطن بورقيبة الذي كان ـــــ على مدى نصف قرن ـــــ أكثر المجتمعات العربية عصرنة وانفتاحاً. استبعاد شريط جمال مقني من «أيام قرطاج السينمائية» كان صدمة للجمعيات النسائية التونسية التي قررت الالتفاف على الرقابة الرسمية، من خلال استضافة المخرج وفيلمه في فضاء «التياترو» الذي يديره المسرحي توفيق الجبالي ورفيقة دربه زينب فرحات، حيث عُرض الفيلم ونُظّم مؤتمر صحافي بحضور المخرج.
أما النوري بوزيد، فقد أطلق صرخة غضب مدوية على شاشة تلفزيون «حنبعل» التونسي (الفيديو على موقع «الأخبار»)، معبراً عن رفضه ما يُقال من أن «التوقيت غير ملائم حالياً للخوض

اتهم المخرج المعروف زميله فريد بوغدير بأنّه وراء رفض دعم فيلمه الجديد

في موضوع حساس مثل هذا». ويضيف صاحب «ريح السدّ»: «إذا لم تعد السينما التونسية قادرة على إثارة قضايا اجتماعية راهنة لمجرد أنها مرتبطة بتابو الجنس، فهذه ردة غير معقولة، وخصوصاً أن المجتمع التونسي متقدّم على مثقفيه، ويناقش هذه القضايا من دون مواربة». النوري بوزيد توجّه بسهام النقد ـــــ بنحو أخص ـــــ إلى رفيق دربه السابق فريد بوغدير، قائلاً: «وزير الثقافة (التونسي) سأل عني لمعرفة خلفيات القضية، مؤكداً أن الرقابة لم تأت من الوزارة، بدليل أنها أعطتني منحة لتأليف السيناريو». وأضاف: «للأسف، في أحيان كثيرة يأتيك الأذى من حيث لا تتوقّع أبداً. المشكلة لم تكن مع سلطة الوصاية (وزارة الثقافة)، بل مع بعض أعضاء اللجنة، وبالأخص فريد بوغدير الذي رأى ـــــ ويا للعجب ـــــ أن السينما التونسية غير قادرة حالياً على تناول قضية اجتماعية ذات طابع جنسي».
يُشار إلى أن مثل هذا الموقف لفريد بوغدير يمثّل مفارقة غريبة. إذ إنّ صاحب «عصفور السطح» يعدّ الأكثر جرأة من بين السينمائيين التونسيين في تناول القضايا الجنسية في أفلامه!