حسين بن حمزةفي ديوانه «تمارين الوحش» (الغاوون)، وهو الخامس له، يقترح علينا أحمد المُلّا (1961) منطقة بعيدة قليلاً عن سوق الشعر، التي تُغرق بكميات هائلة من «الشعر اليومي» و«قصيدة التفاصيل». هناك فصاحة واضحة وجملة عربية، نقية وصريحة، في تجربة الشاعر السعودي، الذي ربَّى نبرته في ظل تجارب عربية رائدة، وصادقَ تجارب أخرى سابقة عليه أو مجايلة له، محاذراً الوقوع في ركاكة الكلام العادي أو شُبهة الشعر المترجم. لا يبالغ صاحب «ظل يتقصف» (1995) في تقديس هويةٍ معينة، لكنّه يميل إلى شعرية عربية باتت مهدَّدة أكثر فأكثر بالتطابق مع الترجمات أو بالزيّ الموحّد للشعر اليومي الذي بات وصفة سهلة لمعظم الشعراء الجدد. ما سبق ليس انتقاصاً مسبقاً من تجارب اليوميين ولا مديحاً مجانياً لطموحات المُلّا، الذي لا يخلو شعره من تفاصيل ومشهديات يومية، لكنّها لا تتعارض مع مزاجه اللغوي وجملته الصارمة.
التمييز بين الفصاحة والركاكة هنا هو توصيف إجرائي ضروري لقراءة تجربة نشأت في بيئة وعرة، يضيق صدرها بالحرية التي تتطلبها قصيدة النثر. هكذا، وجد الشاعر مبتغاه وراء الحدود والجغرافيا المحلية. اهتدى إلى شعريات عربية ذات مذاق مختلف (عباس بيضون، سركون بولص، بسام حجار، أمجد ناصر...). نشر قصائده الأولى في مجلة «مواقف»، ولم ينجُ من أدونيسية إيجابية تسلَّلت إلى معجمه الشخصي. «الآباء البعيدون» حرّروا مزاجه الشعري ومنحوه الفرصة المناسبة كي يطمئن إلى نبرته ويثق بمخيلته، وقد ظهر ذلك في واحدة من قصائده المبكرة، إذْ كتب: «إن قدماً لا تنتقي خطوها/ لا يحقّ لها/ أن تفاخر بالطريق».
اللغة هي الشاغل الأساسي للشاعر. في طيّاتها، تحدث معظم الممارسات والحِيَل التي تُستدرج بها الصور والاستعارات إلى القصيدة. لا يتخلى أحمد المُلّا عن جزالة جملته ومرجعياتها

«تمارين الوحش» يذوب في الجغرافيا المحليّة
العربية، لكنَّ ذلك لا يُوقعه في التهويم اللغوي والمنشآت البلاغية الجاهزة. الواقع أن الانشغال باللغة يزيد من نسبة المتانة على حساب الصور. لا يسعى صاحب «سهمٌ يهمس باسمي» (2005) إلى مفارقاتٍ سريعة تُدهش القارئ وتختزل حركة القصيدة كلها. هناك صور ومفارقات طبعاً، لكنها تخدم بنية القصيدة أكثر مما تخدم نفسها. القصد أن ثمة سياقاً شاملاً تلمع فيه صور قليلة يصعب اقتطاعها والاستشهاد بها وحدها، كما أن الصورة نفسها غالباً ما تكون جزءاً من صورة أكبر. ربما نجد صوراً تتمتع ببعض الاستقلالية مثل: «أكتب اسمكِ وأمحوه/ فتنقلبين وأنتِ نائمة»، أو «أسلُّ الخنجر/ وأبحث عن منتحرين/ لم ينجزوا مهماتهم». لكن الشاعر ميالٌ إلى صورٍ وتراكيب بليغة تذوب في فكرة القصيدة كلها. كأن الصورة خيط رفيع في سجادة المعنى. ولهذا، فإن صوراً مثل: «ضحكتكِ غَشَتني/ فصرتُ لا مرئياً/ لجابي الحياة» أو: «نسيتُ في زحمة أفكاري، أن أطلب من مارد الشعر، أن أُخلَّدَ ويُمحى الموت من كتابي»... لن يكتمل تأثيرها إلا باكتمال القصيدة كلها.
هكذا، نحس أننا لن نخرج برأيٍ صائب ومطمئِن في جديد الشاعر إلا إذا أعدنا قراءته بالطريقة التي كتب بها ديوانه. قد نفضِّل قصيدة على أخرى، وقد يشكو بعضنا من فصاحة متمادية أحياناً، لكننا لن نتجاهل سعي الشاعر إلى إنضاج تجربته.