بعد «الشريط الأخير» لصموئيل بيكيت، يبني المخرج السوري عرضه الجديد على مجموعة نصوص عالمية، تلتقي عند عزلة الكائن، ضمن لعبة مرايا لا تنتهي
دمشق ـــ خليل صويلح
في تجربته الثالثة كدراماتورج، والثانية في الإخراج، يواصل أسامة غنم عروضه التجريبية. وإذا به يقف عند حافة الهاوية في اختبار نصوص عالمية، لم تكن يوماً في مرمى الخشبة السورية. هذه العروض تلقى احتفاءً متفاوتاً من جمهور ملّ العروض التقليدية، وخصوصاً أن المخرج الشاب وجد ضالته في الأماكن البديلة، ما منح عروضه نكهة سينوغرافية مغايرة. كان علينا أن ندخل زقاق المليحي، في دمشق القديمة، لحضور عرضه «حدث ذلك غداً» في محمصة الشطا.
غرفة كبيرة بجدران عارية، وأثاث بسيط، تتوسطه مرآة. في هذا الفضاء، تضافرت ثلاثة نصوص للألماني فرانز كزافيه كروتز، والإيطاليين داريو فو وزوجته فرانكا راميه، والبريطاني مارك رافنهيل. العزلة هي ما يجمع هذه النصوص: امرأة وحيدة، تمضي حياتها برتابة في خط مرسوم بدقة لجهة عاداتها اليومية، وحركتها داخل الغرفة من دون أن تنطق كلمة طوال العرض. مغامرة جديدة تخوضها أمل عمران بشهوانية وجسارة عالية طوال ساعتين. رغم تداخل النصوص، وتعدد هوياتها، والمزاوجة بين الفصحى والعامية، إلا أن مرآة واحدة تعكس أطياف حياة هذه المرأة وألغازها. هكذا يبدأ العرض بمقابلة يجريها مخرج إعلانات (محمد آل رشي) مع شابة (نوّار يوسف)، درست التمثيل، وتريد الحصول على عمل كفتاة إعلان. خلال الاختبار لمنتج من أحمر الشفاه، تخضع الفتاة لانتهاكات جسدية ونفسيّة تتحمّلها على أمل قبولها. يشدد مخرج الإعلانات على أهمية «الماركتينغ» في تسويق السلعة. على الأرجح، فإنّ هذه الفكرة (تسليع الجسد وابتذاله) هي جوهر مسار حيوات المرأة الصامتة لإضاءة حياتها السريّة، إذ تقتحم الشابة الغرفة، وتفرض وجودها الصاخب، فتروي حكايتها كعاهرة في صوتٍ آخر يتناوب مع أصوات أخرى، فيما تنهمك المرأة الصامتة بإعداد وجبة طعام باستعمال «فرّامة اللحمة» كمجاز آخر للانتهاك النسوي. ذلك أن العاهرة تستعيد تفاصيل مهنتها بمرارة وخشونة وبذاءة مستمدة من فجاجة مفردات الشارع.
الفكرة التي اشتغل عليها فو وراميه في ما سمّياه «مسرح المرآة» تحضر هنا بقوة. ذلك أن «الممثلة» تقودنا في مشهد أخير إلى مهنتها الأصلية، أثناء قيامها بتدريبات صوتية على دور ستؤديه، لكنها ستنخرط تدريجاًً بدورها، في مونولوج طويل عن

مغامرة جديدة تخوضها أمل عمران بشهوانية وجسارة
ذكريات امرأة في المعتقل، وجرائم قتل، وتعذيب، وسيسيل أحمر الشفاه على صدرها كطعنة مستعادة لانتهاك جسدي آخر، في مزيج من الخوف والتمرّد والاستسلام. لعل هذا المونولوج النسوي، المأخوذ عن نص شخصي لراميه ـــــ كتبته خلال اعتقالها بدعوى ضدها من الكنيسة الكاثوليكية في روما ـــــ هو أحد أبرز محطات العرض لجهة العمق والكثافة الدرامية، والأداء الحركي، فيما تخفت قدرات الممثلة أثناء تأديتها دور العاهرة، إذ تذهب بالشخصية إلى قالب جاهز.
على المقلب الآخر، تواصل المرأة الصامتة حياتها، لكن بزخم مختلف. ها هي تستعيد أغانيها المفضّلة على جهاز التسجيل مرةً تلو أخرى، في محاولة لترميم فراغات حياتها الرتيبة. تتأمل وجهها في المرآة، وتشحن جسدها المعطوب بتمرينات بطيئة، إلى أن تلتقط إيقاع رغباتها المدفونة في الرقص، واكتشاف قدرتها في التعبير عن ذاتها، كأنما تستعير مخزونها مما روته العاهرة مرةً، والممثلة، مرةً أخرى، في استعارة حياةٍ موازية، أو ربما كان كل ما شاهدناه مرآتها هي بأجساد الأخريات. ذلك أن السرد المشهدي ظل ملتبساً في إشاراته: هل هو حكاية هذه المرأة مستعادة على نحو آخر بجحيمية أكبر، أم هو أصوات الأخريات؟

حتى الغد ـــــ حي مئذنة الشحم، دمشق القديمة ـــــ للاستعلام:00963934836104


سيرة

تخرّج أسامة غنم (1975) من «المعهد العالي للفنون المسرحية» في دمشق، ثمّ حاز منحة لدراسة «المسرح الفرنسي المعاصر» في جامعات باريس، حيث نال شهادة الدكتوراه. يعمل حالياً أستاذاً في المعهد العالي الذي تخرّج منه، وتحديداً في قسم الدراسات المسرحية، كما يشرف مع المخرج السوري أسامة محمد على «النادي السينمائي». تجربته الإخراجيّة الأولى كانت «الشريط الأخير» عن نص صموئيل بيكيت. وكان الجمهور السوري قد اكتشفه من خلال مسرحيّة «المهاجران» التي وقّع فيها الجانب الدراماتورجي، عن نص البولوني سلافومير مروجيك. تولّى غنم مسؤولية برمجة عروض المسرح والرقص في «دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008».