كتابة لاهثة تعتمد تقنيّة التداعيفي روايتها «أسرار وأكاذيب» (دار الريس)، تعالج الكاتبة السوريّة قضايا سياسية وفكرية واجتماعية، انطلاقاً من واقع محدد، متمحور حول السلطة والقمع والفساد

صلاح حسن
لا ندري إن كانت غالية قباني صاحبة «أسرار وأكاذيب» (دار الريس) كانت تقصد ذلك التشويش الذي جاء في بداية الرواية أم أنّها لم تكن تعيه. لكن قبل ذلك، لا بد من توضيح الفرق بين التشويش والغموض. لقد كان هناك تشويش – لا غموض – في عمل الكاتبة السورية. ربما كان يراد منه استدراج القارئ إلى متاهة تتطلبها تقنيات الرواية التي تستعير عنوانها من فيلم شهير للمخرج البريطاني مايك لي (1996). اللعبة التي لجأت إليها قباني في استخدام أشرطة الفيديو عبر الكاميرا الثابتة، وتقنية السرد، منحتها حرية كبيرة في تجميع مادتها الروائية ثم تقطيعها بالطريقة التي تراها مناسبة. لكن الملاحظ أنّ المشاهد الطويلة والدرامية كانت قليلة وقصيرة في الوقت نفسه، ما أفقدها تلك الشحنات التي كان يمكن أن تتواصل حتى النهاية.
عبر أربعة أشرطة مسجّلة في كاميرا ثابتة في مطبخ بيتها، تروي «انتصار» بطلة الرواية حكاية عائلتها التي تغص بأسرار كثيرة وكبيرة، بمساعدة زوجها بسّام المصوّر الوثائقي الذي يتقمص دور الطبيب النفسي. أكثر ما يؤرق انتصار من كل هذه الأسرار والأكاذيب، هو سر والدها البيولوجي واسمه الذي طُمر في دهاليز مظلمة. تمضي بنا الرواية مرة إلى دمشق ومرة أخرى إلى لندن. وهما المدينتان اللتان تدور فيهما أحداث الرواية، حيث عاشت الكاتبة فترات طويلة. يبدو ذلك واضحاً من خلال التفاصيل الدقيقة عن الثقافة المختلفة لناس هاتين المدينتين.
نص جاهز ليكون شريطاً سينمائياً
انتصار اليسارية تعيش في كنف أم تعمل مع السلطة، وأب مزيف يعمل ضابطاً كبيراً في الأمن سيكون هو السبب في تدمير حياة عدد من الشباب الذين يرفضون ما تتعرض له البلاد من تدمير مبرمج، يقوده مسؤولون فاسدون. وهنا الأسرار والأكاذيب التي تراقبها انتصار، وهي ستظهر في الشريط الأول بأسماء كثيرة هي مصدر التشويش الذي تحدثنا عنه قبل قليل. كان يمكن الكاتبة أن تتخلص من هذا التشويش الذي سيواجهه القارئ من خلال تقنية أخرى، وخصوصاً أنّ الأسماء متشابهة إلى درجة كبيرة، إضافة إلى تداخل الأزمنة في الرواية. على رغم أنّه ساهم في اغتناء التطور الدرامي لسير الأحداث وتعميقها، إلا أنّ تداخل الزمن جعل متابعة مسار الرواية شاقاً بسبب قصر المشاهد التي بدا بعضها مبتوراً في بعض الأحيان.
تنجح الكاتبة وبطريقة جريئة في الحفر في قضايا سياسية وفكرية واجتماعية عاشها المجتمع السوري في سنوات ماضية، من خلال التطرق إلى ثلاثية السلطة والمال والشهرة، وبالتالي الفساد وهو يطيح الرؤوس التي تنهك المجتمع المنقسم أساساً (الأب المزيف والأم المتسلطة). في المقابل، تصوّر المجتمع اللندني المختلط، والبون الشاسع بين الثقافتين الغربية والشرقية على صعيد الحرية وحقوق الإنسان وحرية المرأة وحرية التعبير.
تبدو غالية قباني أحياناً الراوي العارف الكلي بالأحداث، قريبة من شخصية البطلة انتصار في بعض الجوانب. وفي جوانب أخرى، تبدو غريبة عنها. وهذا ما جعل الرواية تنجو من السقوط في فخ السيرة الذاتية أو سيرة العائلة. تكون قريبة منها عندما تشاركها مشكلتها السيكولوجية، وهي سمة تكاد تكون مشتركة بين شخصيات الرواية جميعاً، على عكس شخصيات الرجال الذين ظهروا أقوياء وإيجابيين سواء بالقوة أو بالفعل.
هناك شيء واحد لم نجد له تفسيراً في «أسرار وأكاذيب»: إنّه التقطيع الذي لجأت إليه الكاتبة في فصول الرواية والعناوين الفرعية فيها، حتى خُيِّل للقارئ وهو يقلب الرواية أنّها مجموعة قصصية للوهلة الأولى. أما اللغة التي اعتمدتها غالية قباني، فهي سلسة وواضحة للغاية، تتخللها بين وقت وآخر ضربات شعرية مفاجئة تعوض السرعة التي تميزت بها الأحداث. كأن الكاتبة كانت تلهث وهي تكتب، مع أنّها استخدمت تقنية التداعي الحر الذي يتيح مجالاً كبيراً للروي أو الحكي. هذه الرواية في النهاية تشبه سيناريو جاهزاً ليكون شريطاً سينمائياً.