في أرض الأزمات والهويّة المتصدّعةالتقرير الشامل الذي يختصر مشروع «المورد»، حررته الممثلة اللبنانية حنان الحاج علي، استناداً إلى مسح استكشافي شمل ثماني دول عربية

سناء الخوري
قد يكون مسح السياسات الثقافية، كما خاضته مؤسسة «المورد الثقافي»، مغامرة غير محسوبة. هذا ما يتبادر إلى ذهنك، أمام صفحات مجلّد سميك بعنوان «مدخل إلى السياسات الثقافية في العالم العربي». حرّرت الكتاب المسرحية اللبنانية حنان الحاج علي، وهو خلاصة مسح استكشافي أطلقته «مؤسسة المورد الثقافي» في ربيع 2009، وتواصل العمل عليه حتى مطلع 2010. أنجزت الأبحاث بجهد باحثين من ثماني دول عربية هي الأردن (سماح حجاوي/ نوال العلي)، وتونس (هادية المقدم/ وفا بلقاسم)، والجزائر (عمار كساب/ مخلوف بوكروح)، وسوريا (رنا يازجي/ ريم الخطيب)، وفلسطين (فاتن فرحات)، ولبنان (ريتا عازار/ وطفاء حمادي)، ومصر (منحة البطراوي/ نرمين خفاجي)، والمغرب (سلامة الغيام/ فاطمة الزهراء الشعباني).
نتذكر يوم حطّ هؤلاء الناشطون والصحافيون رحالهم في بيروت في أيار (مايو) 2009. أتوا يومها للمشاركة في ورشة، بإشراف خبراء أوروبيين، بالتعاون مع «المؤسسة الثقافية الأوروبية» و«مؤسسة دون» الهولندية و«المجلس الثقافي البريطاني». خصّص المحترف للتدريب على كيفية استخدام نموذج مسح السياسات الثقافية Compendium. إنّه نموذج بحثي علمي معتمد في 41 دولة أوروبية منذ أواخر التسعينيات، ويبنى على نتائجه في مرحلة اتخاذ القرارات المرتبطة بتطوير الإنتاج الثقافي.
كان الهدف من إطلاق المسح، كما قيل يومها، «بناء قاعدة معرفية تدعم التخطيط والتعاون الثقافي في المنطقة العربيّة». لكنّ التجربة، وإن خرجت بإضاءات مفيدة لناحية توثيق التشريعات والهيكليات الإدارية المعنية بالإنتاج الثقافي العربي، إلا أنها ما زالت بعيدة جداً عن النيّة الأصليّة. لهذا، صار المسح الشامل «مدخلاً إلى السياسات الثقافية»، و«نتيجة أولية لمشروع بحثي ينبغي أن يتواصل»، كما تكتب مديرة مؤسسة «المورد الثقافي» بسمة الحسيني في تقديمها.
أولى عثرات المغامرة كانت تعديل الـCompendium «ليتلاءم مع الظروف السائدة في البلدان العربيّة»، بحسب المنظّمين. فقد بترت فصوله التسعة، لتشمل خمسة فصول فقط. بدا في بعض مواضع الكتاب كأنّ الباحثين اضطروا، بسبب ضيق الوقت، إلى إنجاز مسحهم بالموجود والمتوافر.
في مقدمة كل بحث، نقرأ نبذة عن السياق الثقافي للبلد المدروس، من منظور سياسي واجتماعي. بعض المقدّمات ابتعدت عن الخلاصات إلى ما يشبه دروس التاريخ. بعدها، ينتقل الباحثون إلى توصيف هيكليات وزارات الثقافة، مع تعداد تفصيلي لجميع المؤسسات والهيئات المعنية بالإنتاج الثقافي بين نقابات فنية وجمعيات غير حكومية. هامش الحركة لهذه الأخيرة يختلف بالطبع بين دولة وأخرى. في سوريا مثلاً يأخذ مصطلح «مؤسسات المجتمع المدني» بعداً سياسياً، مرتبطاً بأنشطة معارضة، فيما تطغى المبادرات الفردية على ساحة الثقافة في لبنان وفلسطين، مع غياب أي دور فاعل للوزارة المعنية.
العثرة الثانية الأبرز في وجه فريق البحث كانت في باب «تمويل الثقافة». هنا حدّث ولا حرج. تراوح الحصة المخصصة للثقافة من ميزانية الدول المرصودة بين 0،3 في المئة و1،25 في المئة في أحسن الحالات. ولأنّ الحديث عن شفافية في الأرقام طموح مبالغ فيه، جاءت البيانات والإحصاءات هزيلة، لا يمكن التعويل عليها في أي تخطيط أو تطوير.
قد تكون نقطة القوّة في البحث ما جرى توثيقه في مجال التشريعات. نكتشف كيف تتسابق قوانيننا على التقصير في مواكبة العصر، وخصوصاً لناحية حماية الملكية الفكرية. أما في ما يتعلّق بحقوق الفنانين، فنجد أنّ بلداناً كالمغرب ولبنان لم تقرّ تشريعات تنظّم أوضاع الفنانين إلا عامي 2003 و2008 تباعاً! تشير حنان الحاج علي في مقدّمة الكتاب إلى أنّ السياسات الثقافية تتخطّى «السياسة المتعلقة بالفن والتراث، إلى سياسة أشمل تتطلب تضافراً وتكاملاً بين قطاعات شتى في المجتمع». لكن كيف ذلك وكلّ ما تقوم به وزارات الثقافة العربية لا يترجم في خطط فعالة، أو على صعيد التشريعات؟ «الثقافة مدجّنة» وفي «خدمة السياسة»، تخلص الحاج علي. قد تكون المعضلة التي يكشفها «مدخل إلى السياسات الثقافية في العالم العربي» في مكان آخر. كأن البحث عن هامش لسياسات ثقافية ترف بالنسبة إلى كثيرين، في بلدان تعيش أزمات هويّة عميقة، وتتخبّط فيها الحريّات أمام الأفق المسدود.