منى السعودي: ترويض القسوةحازم سليمان
كبير هو القلق خلف تلك السطوح الملساء. حيوات غير منقوصة تتحرك بين دوائر وانحناءات وخطوط مستقيمة. استفزاز لصمت المادة. تحفيز سكونها ليصير حراكاً متصلاً يشبه ديمومة الحياة. لذلك، ليس لمتأمل أعمال النحاتة منى السعودي (1945)، إلا أن يجد نفسه عالقاً في غواية غامضة. تلك الرؤية النقية للشكل. تحرير المحاكاة من أطر ومفاهيم كلاسيكية جعل نحت السعودي مكتمل الخلقة. مستقل، يستمد دلالته من نفسه. نظرة السعودي العميقة والخاصة إلى بنية المادة جعل اشتغالها يأخذ نسقاً إحيائياً. تبدو المنحوتة حرة، منسجمة مع سياقها الطبيعي والتاريخي الذي جاءت منه. السعودي تروض وتستأنس كل تلك القسوة.
الفنانة الأردنية التي تعرض للمرة الأولى في لندن، ليست غريبة على الجمهور الأوروبي. المختارات التي تستضيفها «مؤسسة عبد المحسن القطان» في «قاعة موزاييك» هي بمثابة بانوراما لملامح عامة في تجربة سيدة النحت العربي. قدمت السعودي تجربة محورية في المحترف التشكيلي العربي. سيادة الشكل، وعلاقتها العميقة وغير التفسيرية بالطبيعة، وتحديداً الأرض التي أخذت في أعمالها مفاهيم عدة، أبرزها «النفي/ الاقتلاع»، إحساسها الغريزي الخاص... جميعها عناصر أسهمت في تقديمها معالجات استثنائية للكتلة والحجم.
يترك نحت السعودي مشاعر متضاربة. العلاقات المحكمة في بنية الشكل تعوق وضعه في تعريفات محددة. في لحظة، يبدو عملها استكمالاً لخيال البنائين العظام، ورحلة النحت العربي الموؤود، ثم نراه منفلتاً من أي مرجعية نعرفها. سطوح تختزل الزمن، دوائر تسبر عمقه في حيوية معاصرة فريدة. وأمام المركزية بأشكال وملامح متنوعة، ثم السمو الجارح للفضاء، يصير الزمن الإنساني ضيقاً ومحدوداً، ويتحول النحت إلى استقطاب واستيعاب لشغف خاص بالحياة بمعناها الواسع، وليس اليومي.
أعمال صاحبة نصب «هندسة الروح» الموجود أمام معهد العالم العربي في باريس، تأتي من فضاء معرفي واسع. المعنى في تجاربها راسخ ومستقر. هندسياتها المجردة يحكمها حراك داخلي عميق يبدأ من نقطة مركزية ثم يتسع ويتكرر بتلقائية فريدة قبل عودته إلى المركز ذاته. يأخذ الزمن هنا دورته، ويقودنا إلى اشتغالات أنجزتها السعودي ليكون عملها سرداً لعلاقتها الخاصة في فهم التكوين المسكون بأبعاد عدة، منها ما ينحفر على الشكل، ومنها ما يأخذ سمة لامرئية تسكب فيه السعودي روحانية صوفية و«إيمانية». الظاهر الجمالي والمرتبط بحساسيات خاصة في قراءة الشكل والحجم والفضاء يعكس شعرية طاغية عند السعودي. ومعرضها اللندني الذي أطلقت عليه اسم «إلهام شعري» لا يقتصر على النحت، بل يتضمن مختارات من رسوم ورُقم أنجزتها في مراحل مختلفة. وإن كان رسمها بمثابة استراحة من «أشغال شاقة جميلة»، إلا أن ما ترسمه يظل في مناخ النحت. مخطوطات وتجارب أولية لمنحوتات أنجزتها أو تحلم بها.

عناق أبدي وأنصاف دوائر تقودنا إلى حرف النون
رسوم السعودي ليست ترفاً بقدر ما هي سلسلة حوارات بصرية مع نصوص شعرية. تأكيد على علاقتها الوطيدة غير المنفصلة عن المنجز الإبداعي العربي بأشكاله المختلفة. رسمت مثلاً قصائد لأدونيس «مفرد بصيغة الجمع»، و«رقم البتراء»، و«الأرض» للراحل محمود درويش.
في «فضاءات إنسانية» (رخام أردني ـــ 5×23×31،1)، تضعنا أمام مساحة مفتوحة من التفسيرات. عاطفة قوية، وعناق أبدي، وأنصاف دوائر تقودنا إلى حرف النون الذي يأخذ عند الفنانة حضوره الفكري الخاص. لا يخلو العمل من الإحالات الصوفية الكثيرة في أعمالها. هل نحن أمام نون بن عربي؟
تنتمي السعودي إلى خامتها بطريقة فريدة. علاقتها بالمادة هي صحبة وصداقة، وأسرار كثيرة. الحب دفعها إلى قراءة العالم وتتبع أحلام وشغف كبيرين. منذ طفولة «سبيل الحوريات» في عمان، وغرفتها في الحي اللاتيني في باريس، وكروم العنب في الطريق إلى جبل المرمر في إيطاليا، وبيروت الحنين الدائم... محطات تجتمع فيها حكاية مبدعة عربية استثنائية آمنت بأن «الإنسان نبات حلمه».


حتى 22 الجاري ـــ The Mosaic Rooms (لندن) ـــــ للاستعلام: 00442073709990