أحزان ديجيتال «على الضفّة الأخرى»حازم سليمان
ما سنراه يقلب المعادلة. ليست هذه المدن العربية التي نعرفها. صورنا السعيدة عند أهرامات الجيزة، وساحة محمد الخامس في المغرب، أو شارع الحمرا في بيروت، ستبدو باهتة أمام ارتحالات تسعة فنانين عرب في مساحات قلقة عبر التشكيل والتصوير الفوتوغرافي والتجهيز وأعمال الفيديو. انطباعات صادمة لكنها حقيقية. تفاصيل كثيرة مخبوءة ستطفو على السطح. مخاوف ورؤى تدخل حيز اليقين لتشاكسه وتخلخل ما بقي من ثوابت.
ليس الغرض من أعمال معرض Arabicity الاصطياد في مياه عكرة، أو تقديم حالة استعراضية رافضة وفق مزاج أيديولوجي. الفنانون الذين جمعتهم منسّقة المعرض روز عيسى في لندن، بالتعاون مع «مركز بيروت للمعارض» يقرأون مخاوف تبدو بديهية للوهلة الأولى، لكنها سرعان ما تحيلنا إلى فهم آخر لمفردات المدن العربية. تحولات عميقة في بنية هذه المدن الآتية من تاريخ ثقيل مشوش. لا مكان للحنين هنا. ثمة تأجيج لفعل التعرية. انتشال تفاصيل مهملة هدفه وضع الراهن في سياق تاريخي مفهوم ومنطقي. التهجير الذي يبلغ مداه في تجهيز التشكيلي اللبناني أيمن بعلبكي (1975)، يأخذنا إلى أزقّة المغرب في أعمال حسن حجاج (1961)، ليس هرباً من الدمار الذي يطارد بعلبكي، بل إلى دمار من نوع آخر. وإذا كان شغل بعلبكي يبدو تمجيداً لذلك الدمار الذي نالت بيروت منه ما يكفي، فثمة احتفاء عميق وغير مباشر بالحياة، ورصده لتفاصيل مدينة مكللة بالرصاص لا ينبع من دافع انفعالي عاطفي فقط. أما وجوه حجاج وتعابيرها فهي انعكاس عميق للتغريب والتنميط والفوضى. ربما كان الحل في رثائيات الأرمني المصري شانت أفيديسيان (1951). هل كنّا سعداء في زمن أم كلثوم وعبد الوهاب؟ هل كان عبد الناصر طوق نجاة، أم مجرد زعيم حالم؟ وهل يمكننا النظر إلى طفرة «الميني جوب» في الستينات على أنها بداية لمشروع تحرر المرأة العربية؟ إن كان كذلك، فلماذا وصلت المرأة إلى ما هي عليه اليوم؟
الفلسطينية رائدة سعادة (1977) تضع هذه المرأة في ظروف قسرية وعوالم تشبه الامتحان لجوهر وجودها، وطبيعة حياتها. في عملها الأدائي «مفترق»، نجد المرأة مغروسة في المكان بكتل إسمنتية، ونراها في عمل فوتوغرافي آخر بعنوان «سلة» تعتمر سلة مشتريات الخضر بدل القبعة أو الحجاب. العوالم السابقة ستكون مبرراً لجداريات المصري من أصل سوداني فتحي حسن (1957). أعماله تبدو كأنها نعوة للعروبة، رد فعل شعبي عفوي على كل ما يحدث. تشبه تجاربه الكتابات المعارضة التي نستيقظ لنراها على الجدران وحيطان الأزقة والعشوائيات: «حرام عليكم»، «عروبة وأعراب» هما من عناوين تجاربه الجدارية التي يستخدم فيها اللون الأسود والدهان.
أما شراكة الفلسطينيين باسل عباس (1983)، والسينمائي والفنان روني أبو رحمة (1983)، فنتجت منها سلسلة أعمال ديجيتال توثّق الحزن. عوالم سينمائية تقترب من الماورائيات. تؤسطر الوجع الفلسطيني العام، من خلال رؤى ذاتية. «أنا على

أعمال تنتشل العادي، وتمضي به بعيداً إلى ممكنات تبدو مستحيلة
الضفة الأخرى»، و«أحلامي»، و«غضب الدار»، جميعها أعمال تنتشل العادي، وتمضي به بعيداً إلى ممكنات تبدو مستحيلة. الخيار الجمعي هو أيضاً رهان السورية بثينة علي. عملها التجهيزي «نحن» يقدم رصداً لحيوات ومصائر متغيرة. أراجيح متوازية تتدلى في فراغ يولد حالة من الضيق والنفور. البنائية التي يتسم بها العمل تحيلنا إلى وقع قاس للزمن. مساقط الضوء، والظلال الأرضية، والمسافات المدروسة، عناصر تضعنا في مواجهة مخاوف وتحولات عميقة في علاقة الفرد بالمجتمع والعكس.
الألمانية من أصل مصري سوزان هفونة (1962) تواصل مشروعها الذي ظهر في معارض سابقة. قراءتها الخاصة لفكرة المشربيات في العمارة الإسلامية قادتها إلى نتائج مهمة في تحليل العلاقة بين المحجوب والمرئي في المدينة وخصوصاً القاهرة. ثمة نفي للآخر، وحجب لجوهر الأشياء. المدينة في أعمالها تتوارى خلف الكثير من المفاهيم المُضَلِّلة.
كل هذا الضيق في أعمال عربية لفنانين من أجيال مختلفة. يبدو المعرض يقف على تخوم سياقين فكريين: الأول يحلل ظواهر قائمة، والثاني يعود إلى الماضي. أين نحن الآن من كل ذلك؟ كل هؤلاء الموتى في أعمال شانت أفيديسيان. تلك الوجوه المنسية في تجارب حسن حجاج. تيه أيمن بعلبكي، والحرية العرجاء عند رائدة سعادة، وتهويمات باسل عباس وروان أبو رحمة، والخوف المتأصل عند بثينة علي... كل ذلك تلخّصه جدرايات فتحي حسن في جملة تتكرر كثيراً في أعماله «حرام عليكم».

حتى 31 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري ــــ «مركز بيروت للمعارض». للاستعلام: 01/980650


«نزوح» أيمن بعلبكي

484701 هو رقم لوحة تسجيل سيارة أيمن بعلبكي المهاجرة من الجنوب اللبناني. التجهيز كناية عن سيارة تحمل على سطحها عفش البيت المنكوب، تتحرّك وفق بوصلة وضعت تحتها. والسبب أنّ أيمن اختار «تجسيد زاوية مشوقة من عملية التهجير، وهي مغامرة الانتقال الى آخر نجهله». في أعماله المعروضة في «مركز بيروت للمعارض»، يريد التشكيلي تناول الحرب الأهلية وصياغتها فنيّاً. غير أنه يحاذر الوقوع في مطب الفنان ضمير الأمة ونبض الشارع. هو حالة شخصية يرسم «ما رأيت وأرى». في لوحة «القناص»، نرى بناية مهدمة في إطار أفيش سينمائي مصري. يقول بعلبكي: «أردت أن أدمج بين تاريخين، تاريخ دمار الحرب، وانطباعاتي الشخصية حين كنت ألاحظ أنّه كلما أنشئ فندق في لبنان، كان يصوّر فيه فيلم مصري». بين عفش السيارة المهاجرة، صورة ولد حزين مع مكنسة وسطل، تقصّد بعلبكي وضعها ليبدي إعجابه «بكيفية وضع النازحين بيتهم على ظهر سيارة والمضي الى الأمام.»


تم تعديل هذه المقالة عن نسختها الورقية الأحد 17 تشرين الأول 2010