strong>المفكّر التنويري الذي لم يملك ترف اليأسالعاصمة اللبنانية تحتفي اليوم بصاحب «التفكير في زمن التكفير». تشارك في اللقاء الذي تنظمه ثلاث مؤسسات ثقافيّة، مجموعة من الكتاب العرب واللبنانيين. «المرأة الجدعة»، رفيقة درب المفكّر الراحل التي التقيناها قبل سفرها إلى بيروت، ستحكي عن نصر الإنسان الذي لازمته هموم الوطن على سرير المستشفى

القاهرة ــ محمد شعير
يومها بكى نصر حامد أبو زيد (1943 ـــــ 2010). كان قد أفاق لتوّه من الغيبوبة، حين سألته زوجته الأكاديمية ابتهال يونس عن السبب، أجاب: «دم الشهداء إللي تاجروا فيه». كان ذلك الحوار الأخير الذي دار بينهما قبل رحيله في 5 تموز (يوليو) الماضي. صمتت أستاذة الحضارة في كلية الآداب في «جامعة القاهرة» قبل أن تضيف بمرارة: «تصوّر، بعضهم كتب أنّ نصر فقد عقله في آخر أيامه. كأنّ من يبكي حال البلد يُتَّهم بالجنون».
ابتهال يونس النصف الآخر للدكتور نصر، نصفه الأعذب وكاتمة أسراره. المرأة «الجدعة» حسب التعبير المصري، ستكون حاضرة اليوم في الاحتفال التكريمي الذي يقيمه «برنامج أنيس المقدسي للآداب» و«المركز الثقافي العربي» ومؤسسة «هينريش بُل» لصاحب «نقد الخطاب الديني»، ويشارك فيه الشاعر عباس بيضون، والنقّاد فيصل دراج، وجابر عصفور، وفريال غزول، وشيرين أبو النجا وناشره وصديقه حسن ياغي، كما يُعرض فيلم عن الراحل حققه محمد علي الأتاسي (راجع صفحة 17).
عندما أصدرت المحكمة قرارها بالتفريق بين نصر وزوجته في التسعينيات، وقفت ابتهال يونس صامدة. وحين سألوها ماذا ستفعل لو دخلت عليها الشرطة لتنفيذ الحكم، أجابت: «طيب يوروني حينفذوا الحكم إزاي». أما نصر نفسه، فقال يومها: «سآخذ زوجتي في حضني. ما فيش حاجة تبعدني عنها».
منذ 20 عاماً، التقت ابتهال ونصر للمرة الأولى. بدأت بينهما صداقة تطورت إلى زواج. لكن لماذا أصرّ على أن تكون العصمة فى يدك؟ تجيب: «كان لديه احترام حقيقي للمرأة. كان يؤمن بأنّ حق المرأة لا يقل عن حق الرجل في اتخاذ القرار، وقال لي وقتها: عندما تكون العصمة في يدك ستكونين حرة. لن يجبرك أحد على أن تكوني معي من دون رغبتك، وهذا يعطيني الإحساس بأنك فعلاً تريدينني».
كان متوقعاً أن يحضر نصر إلى مصر في إجازته تلك، لكنّ ظروف ارتباطه بتلاميذه في إندونسيا لبحث إمكان تأسيس معهد للدراسات القرآنية جعله يتجه إلى هناك. ومن إندونيسيا، أخبرها تلميذه الدكتور علي مبروك أنّ «نصر ملخبط شوية». عندما وصل إلى القاهرة، أدخل المستشفى. لم يكن فاقداً للوعي. كانت المشكلة فقدانه التركيز أحياناً، وعدم إحساسه بالزمان والمكان. في المستشفى، شُخّص المرض أنّه فيروس يصيب خلايا المخ.
كان يردّد: في زمن «الفاست فود» على القارئ أن يتعب قليلاً ليفهم
لكن هل كان يشعر بقرب رحيله؟ تجيب: «أبداً. نصر كان محباً للحياة». وبالفعل، كان صاحب «نقد الخطاب الديني» يخطط لمشاريع عدة. تقول ابتهال: «كان يُعدّ لثلاثة مشاريع: ترجمة «الموسوعة القرآنية»، والمشروع الثاني هو إعادة تفسير القرآن وفقاً لترتيب النزول لا وفقاً لترتيب التلاوة، وكان ينوي التفرغ للمشروع. كان يعدّه مشروع عمره. من خلاله سيردّ على الذين هاجموا القرآن من المستشرقين، ورأوا فيه تناقضاً». وتتابع: «منذ ثلاث سنوات، رأى نصر أنّ القرآن ليس نصاً بل مجموعة خطابات. وكان يرى أن هناك خطابات عدة داخله، خطاب للمؤمنين، وآخر للكفار، وثالث للنبي، ورابع لأهل للكتاب، وهكذا. كان يرى أنّه إذا عددنا القرآن «خطاباً» موجّهاً إلى أناس مختلفين، فلن نجد تناقضاً كما يرى بعضهم. أما مشروعه الثالث، فكان تأسيس «المعهد الدولي للدراسات القرآنية» على الإنترنت. وقد سافر إلى إندونيسيا من أجله».
لكن هل صحيح أنه طلب ألّا يدفن في مصر لو مات خارجها؟ تجيب: «عندما مات نزار قباني في لندن ورفض المركز الإسلامي إدخال نعشه للصلاة عليه، وبقي النعش على الرصيف، غضب نصر بشدة. وطلب مني ألّا أدفنه في مصر لو مات خارجها. لكنّه غيّر رأيه بعد ذلك». متى حصلت المصالحة بينه وبين مصر؟ تجيب: «في السنة الأولى من المنفى التي كانت صعبة. كان يقول دائماً: النهار لهولندا، ومصر تزورني في الكوابيس ليلاً». لكنّه لم يغب عن مصر. كان صديقه الشاعر زين العابدين فؤاد يقول له: «أنت ساكن في هولندا، وعايش في مصر». تقول ابتهال يونس: «نصر باحث وإنسان ومواطن. المواطن لم يغب عن مصر مطلقاً. حتى في لحظات مرضه، كان يتحدث عن هموم الوطن». تتذكر: «تصوّر أن بعض الصحف كتبت أنّه فقد ذاكرته أثناء العلاج. وهذا ليس صحيحاً. كان الدكتور علي مبروك يقرأ بيتاً في قصيدة، ويكمل نصر بقية القصيدة. وعندما يغيب للحظات ثم يعود، كان يسألني ماذا جرى، ويغضب من اضطهاد المرأة والأقباط في المجتمع».
نسألها إذا كان قد تأذّى من هجوم بعضهم عليه، واتهامه بالكفر؟ تجيب: «طبعاً، كان الهجوم عليه يجرحه، ولا سيما أنّه نطق بالشهادتين في أول محاضرة له في هولندا. لكن مع الوقت، صار يبتسم من الهجوم». لكن ألم يؤثر المنفى، ودخوله في معارك دفاعاً عن الإسلام، على مشروعه البحثي، وهو ما كان يسمّيه «ضغوط الخطاب النقيض»؟ تجيب: «إطلاقاً. كانت معركة نصر الأساسية ضد الجهل، سواء أكان ممن يهاجمون الإسلام أم مَن يدّعي أنّه يدافع عن الإسلام. نصر كان باحثاً من داخل الإسلام لا من خارجه. لكنه الإسلام المستنير».
تبتسم ابتهال مع مسحة حزن خفيّة، حين نختم حديثنا بالسؤال عن الاختلافات بينهما. تقول: «لا شيء تقريباً، سوى أنني كنت أرى أنّ لغته صعبة، لن يفهمها الجمهور العادي بسهولة. كنت أطلب أن يعيد كتابة مقالاته للتخفيف من طابعها الأكاديمي». تبتسم: «كان يقول دوماً إنّنا نعيش عصر الـTake away. القارئ يريد الشيء الجاهز، لكن عليه أن يتعب نفسه قليلاً حتى يفهم ما أقصده». بعد فترة صمت، تضيف: «كان هو متفائلاً وأنا متشائمة. كان تفاؤله يغيظني. وأقول له إنّه رغم كل ما جرى لك، ألا تزال متفائلاً؟ فيضحك ويقول: اليأس ترف لا أملكه». كان رهان أبو زيد على المستقبل. لم يشعر لحظةً أنه يحارب طواحين الهواء، ولم يسقط في فخ «الضحية». في يوم العزاء، أصرّ شابان من إحدى الجامعات الإقليمية على تعزية ابتهال وقالا لها: «نحن تلاميذ نصر. قرأنا كل أعماله وتتلمذنا على أفكاره»، وهذا كل ما كان يطلبه نصر.

5:30 مساء اليوم ـــــ «قاعة عصام فارس»، الجامعة الأميركية في بيروت ـــــ يلي اللقاء عرض شريط محمد علي الأتاسي «في انتظار أبو زيد»: للاستعلام: 01/350000