خلال التظاهرة المطلبية الحاشدة والعابرة للطوائف وللملل التي ملأت «ساحة الشهداء» أول من أمس، كان مشهد المتظاهرين الغاضبين الآتين من نقطة انطلاقهم أمام وزارة الداخلية في الصنائع على وقع الأغاني الثورية، تزنّرهم القوى الأمنية وتضمن سلامتهم يوحي أنّه لم يحصل قبلاً أي اعتداء من هؤلاء على جزء من المتظاهرين ويرقد أحدهم في المستشفى بحالة حرجة. ننطلق من هذه المشهدية السوريالية لنحاول إسقاطها على المشهد التلفزيوني المحلي المواكب لهذا الحراك، حيث مارس بعضهم سياسة الازدواجية والخبث.
في الواجهة: بعض القنوات اللبنانية انخرط كلياً في المشهد، بل نصّب نفسه وكيلاً عنها كـ«الجديد» وlbci، ومن حين إلى آخر قناة mtv. وهناك إعلام آخر كان منسجماً مع نفسه، ناطقاً باسم الزعيم الذي يعتاش من شاشته. طبعاً كل هؤلاء سادهم الارتباك لأنّ الحراك يضم مختلف الشرائح اللبنانية البعيدة عن التخندق والتحزب الأعمى، فلم تكن الوصفة جاهزة هنا في التصويب على فريق سياسي مناوئ. لم تستطع هذه القنوات أن تشكل موجة معارضة لخصومها السياسيين، لأنّ الأمر على تماس مباشر مع المواطن وحقوقه الأساسية، فكانت تردد مرة شعارات هذا الحراك ومرة أخرى تنطق باسم زعمائها السياسيين في خلطة غريبة عجيبة لا يفقهها سوى اللبنانيين. خلطة سرعان ما تحوّلت إلى ازدواجية وخبث في التعاطي الإعلامي مع تظاهرة أول من أمس، طرحت بقوة دور هذا الإعلام وكواليسه وإلى أين يريد أخذ الحركة الاعتراضية المحقة للناس وبأي مستنقع سياسي يريد قذفه.
من استوديواتها في النقاش، قادت بداية قناة «المر» الثورة في غياب نبض الناس وحضور نخب فنية إما عبر الهاتف أو ضيوف في الاستوديو. بدأت طلائع «الثورة» على وقع «لازم غيّر النظام» لغدي وأسامة الرحباني التي نبشت من أرشيفها (1997)، وعلى يسار شاشتها العدّ العكسي لتظاهرة السبت يعلوه هاشتاغ «#طلعت_ريحتكم». بدأت «الثورة» صباحاً واستكملت في فترة ما بعد الظهر مع استضافة رئيس «شعبة التحقيق والتفتيش في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي» العميد عادل مشموشي في برنامج «بيروت اليوم»، وكانت بالطبع حلقة تبييضية لصفحة القوى الأمن، ولا سيما بعد اعتدائها على المتظاهرين الأسبوع الماضي. هنا اكتملت عدّة الثورة مع عنونة هذه الحلقة بسؤال: «ما هو مصير تحرك اليوم وهل يفسده المندسون؟». وهذا السؤال بالطبع مرتبط ارتباطاً عضوياً بسياق الحلقة. سألت دنيز رحمة فخري مشموشي عن «تجاوزات القوى الأمنية». للوهلة الأولى، شعرنا بأنّ هناك توازناً في النقاش، لتعود وتنفي بنحو قاطع حصول هذه التجاوزات أخيراً وتحصرها فقط في تعامل هذه القوى مع المواطنين في موضوع السير فقط. ويزيد عليها مشموشي أن ما حصل في رياض الصلح ليس سوى «ممارسات فردية» بخلاف الرواية المتداولة البكائية التي تقول بأنّ قوى الأمن هي عناصر مغلوب على أمرها ومأمورة. لا شك في أنه استغباء علني لعقول المواطنين وفضح جليّ لأداء هذه المحطة الخبيث، فقد سبق هذه المقابلة تقرير لمراسلة المحطة منى صليبا عن القوى الأمنية واستنتاج بأنهم «ضحايا» كما المواطنون، وراحت الكاميرا تعرض الإصابات في بروباغندا واضحة المعالم والمقاصد.
يبدو أنّ قناة المرّ تلعب على حبلي السلطة والمواطنين، وتُصرّ على تعميم تسييسها وطبقيتها، فما فعلته مراسلتها الميدانية جويس عقيقي بعيد انتهاء التظاهرة في ساحة الشهداء لا يصبّ إلا في هذه الخانة. قالت إنّ «المندسين» معروفو الوجوه والانتماء ومن أي مناطق «قريبة» يأتون في سيناريو مشابه لما قدمته المحطة قبلاً بأن هؤلاء المشاغبين ينتمون الى «سرايا المقاومة» (الأخبار:27 -8-2015).
الهشتكة ولعبة التشبيك مع العالم الإلكتروني بدأتها lbci التي وسمت يمين شاشتها بالهاشتاغ الأكثر تداولاً على مواقع التواصل الاجتماعي «طلعت_ريحتكم» وأطلقت على حراك السبت «انتفاضة 29 آب».

mtv بيّضت صفحة قوى
الأمن... وديما صادق افتتحت حفلة ضد سلاح «حزب الله»
وعلى «الجديد» رأينا إعادة نقل التغريدات على هذا الهاشتاغ. هكذا في ليلة وضحاها، انقلب المشهد التلفزيوني من داخل الاستوديوات إلى قلب ساحات التظاهر والاعتصام. خيّمت كاميرات المحطات هناك، وصنعت من زوايا هذه الساحات ديكورها. ولساعات طويلة واكبت الحراك وجندت مراسليها لاستصراح الناس وفتح الهواء لأوجاعهم على طريقة «الهايد بارك». أمر تكرر طوال الأيام السابقة للتظاهرة الكبيرة، فيما اعتلت وجوه معينة من حملة «طلعت ريحتكم» هذه الشاشات في شكل بات احتكارياً كأنه مقصود ذو هدف معين أو ربما (وهذا مستبعد) يعبّر عن كسل المعدين. علماً بأنّ الحراك الشعبي دخلت عليه تجمعات شبابية أخرى أولها «بدنا نحاسب» اليسارية التي كان لها حضور وتأثير قوي وفاعل على الأرض. وبخلاف شاشتي «الجديد» وlbci المتنافستين على كعكة الجمهور، ثبتت «المنار» قدمها بعد تخبط وارتياب واضحين برزا في أول أيام الحراك. وبنحو صريح في مقدمة نشرة أخبارها أول من أمس، أعلنت أن نبض المحتجين لن «يسرقه أحد مهما حرفت اللافتات وصوبت الهتافات والهاشتاغات». وكانت أعمال «الشغب» والتهويل الدجاجة التي تبيض ذهباً لكل من «المستقبل» و nbn في حرف مسار الحركة الاحتجاجية عن مسارها وأهدافها. أما تغطية otv، فركزت على «تصالح الحزبيين مع المتظاهرين» والمقصود هنا منع ناشطي التيار الوطني الحرّ من المشاركة في التظاهرات قبلاً لكونهم حزبيين. ولم تتوان المحطة عن تكرار ما سربته بعض الصحف عن مشاركة تيار «المستقبل» في التظاهرة. لم يهن عليها هذا الخبر طبعاً، فأخذت تذكّر بالملفات الفاسدة للتيار الأزرق، ولا سيما ملف النفايات.
من كل ما تقدم، مشهد تلفزيوني واحد بدأ يتبدى وتتظهر معه أغراض سياسية معينة، كتحويل حلقة «نهاركم سعيد» (lbci) التي بثت من تراس أغلى مقهى في وسط بيروت أمس، إلى حفلة عنوانها سلاح «حزب الله» واتهامه بالفساد بدلاً من أن تقف الحلقة عند ما حصل في ساحة رياض الصلح. فهل هذا تشويس مقصود تقوده ديما صادق في المحطة التي يبدو أنها تختلف عن زميلتها ندى أندراوس المواكبة أيضاً للحراك وتحرص دوماً على استضافة شخصيات ذات حيثية وتأثير في الرأي العام وتملك مقاربات علمية حقيقية لما يحصل اليوم؟ هل هو تضارب أم توزيع أدوار في المحطة عينها؟




«تلفزيون لبنان» الذي غاب عن التغطية يومي السبت والأحد الماضيين للتحركات الاحتجاجية للبنانيين في ساحة رياض الصلح، عاد ونفض الغبار عنه وقرر نقل تظاهرة أول من أمس، لكن بطريقة جداً ساذجة تستغبي المشاهد وتكشف هزالة طاقمه التحريري والميداني. قررت المحطة نقل هذه التظاهرة عند الساعة السادسة مساء بعد ما تعرّفنا الى وصفات الشيف أنطوان الحاج. خرج علينا مراسلها المتحمس نبيل الرفاعي وسط الجموع ليقول إن مطلب كل هذه الحشود هو فقط «انتخاب رئيس للجمهورية وباقي المطالب المرفوعة تحرف التظاهرة عن مسارها»! وكانت اللافتة التي وضعتها قوى الأمن الداخلي «منكم.. ولكم.. لحمايتكم» تتصدر الشاشة. وربما الأمر المثير للضحك فعلاً ما أتى في مقدمة نشرتها المسائية من تهنئة للمنظمين بما «أن التظاهرة لم تقم في رياض الصلح في مواجهة السرايا والبرلمان، والأهم أن «الداخلية» حمتها ولم تنس القناة أن تعظ الحكومة بأن عليها وأد خلافاتها والعودة الى الإنتاجية».