الطفل النحيل الشاحب، الريفي اللسان، صار من رموز جيل الستينيات في الأدب المصري. عرف السجن والمنفى، وعاش متنقلاً بين يقينيات وهوامش متضاربة... كل ذلك ترك ندوباً، نستعيد بعضها
هنا، في حياته وإبداعه

القاهرة ـــ محمد شعير
عبد الحكيم قاسم (1935ـــــ1990) خارج دوماً. لم تكن «محاولة للخروج» عنواناً لرواية كتبها، بقدر ما كان تلخيصاً لمسيرته، وأزمته الشخصية في البحث الدائم عن ذاته، في الشيء ونقيضه. كلما وصل إلى يقين، غادره إلى نقيضه: في التصوف حيناً، وفي الماركسية أحياناً. كان يحاول دوماً التحرر من أسر المكان عبر السفر الذي أراد أن يحرره من «عبودية الأماكن»، أو حتى عبر ممارسة العمل السياسي المباشر. دامت رحلة البحث طويلاً، لكنه لم يجد نفسه إلا في الكتابة.
عندما جاء إلى الدنيا، في ظروف غير عاديّة، كان لأبيه «دار وأرض وبهيمة وعيال»... وزوجة ثالثة ستنجب له عبد الحكيم الذي ولد «عليلاً وهزيلاً». هذه العلة كانت لها أثر عميق في تكوّن بداياته وعلاقاته بأقرانه وأبيه. الأب كان محدثاً بارعاً، قادراً على السيطرة على مستمعيه. وكانت تجربته الحياتية هائلة. هو رجل كثير الأسفار، كثير الأصحاب مشغول بالأولياء والمزارات والموالد والأسواق. لكنه قبل أي شيء مفتون بالكلمة، يجيد قولها، والإنصات إليها، يدرك سرها، ويصنع منها عالماً مغايراً للواقع. وهنا كانت البداية.

روايته الأولى كانت «قنبلة» أدبية، ثم ضاقت القاهرة بأعماله فَنَشَرَ في بيروت
يقول الكاتب في مذكراته غير المنشورة: «لقد فتح أبي هذا العالم لي لأهرب إليه، أنا الطفل العليل غير القادر على ممارسة الحياة العادية مثل أقراني من العيال». لكن العلة لم تكن وحدها سبباً في قربه من عوالم والده. كان هناك أيضاً عالم الذكورة في قريته. عالم صارم «مجبول على تقاليد أبوية شديدة العمق فى نفوسهم، كانوا يستهجنون أن يتعلق الذكور من أبنائهم بالأمهات». هكذا كانت عوالمه صوفية حيث الموالد والحضرات الدينية، عشق المرحلة التي عبّر عنها في روايته الأولى «أيام الإنسان السبعة».
في الثامنة، هجر قريته «البندرة» (قرب طنطا) إلى قرية أمه في ميت غمر في الغربية كي يكمل تعليمه. خمس سنوات كاملة قضاها في بيت الجد، لم يشعر فيها بسعادة: «لم تحبني جدتي أبداً. ولم يلاحظ جدي وجودي تقريباً». كل ذلك لم يزده إلا احساساً بالغربة: «أنا الطفل النحيل الشاحب الريفي اللسان، ولم يكن ثمة حضن أبي لألبد فيه. في بيت جدي عرفت الكتاب». كان يحلم بأن يكون كهؤلاء الصغار الريفيين الآتين إلى ميت غمر من القرى القريبة، لكنهم يعيشون في غرفة مستأجرة من دون رقيب. بدأ حلمه يتخذ شكل البدايات القصصية، فكتب مثلاً عن شاب يعيش وحده في غرفة على السطوح ويقع في حب جارته. ضاعت صفحات القصة ونسيها، لكنّ شيئاً مهماً بقي: «القراءة والكتابة هما عالمي، ومهربي من عالم لا أستطيع التواؤم معه». في تلك المرحلة، بدأ الشوق إلى القراءة. لكنه كان مستغرقاً حينها في قراءات كتب الفقه والسيرة النبوية، فقادته إلى الانضمام ـــ كأبناء الريف حينذاك ـــ إلى جماعة الإخوان المسلمين.
كانت مرحلة الإخوان في حياته امتداداً لمرحلة «عالم الكلمات»، قبل أن يغادرها حين ترك قريته إلى الإسكندرية، لدراسة الحقوق. هناك اقترب من أفكار اليسار، ثم راح يتردّد على القاهرة وعالم المثقفين.
كانت لحظة استثنائيّة في حياته، عندما نشر في مجلة «الآداب» البيروتية. لكن تلك الفرحة لم تدم طويلاً. فقد قُبض عليه بتهمة الانتماء إلى تنظيم شيوعي. السجن تجربة أخرى، تركت أثرها العميق على عبد الحكيم قاسم. هناك التقى صنع الله إبراهيم، ورؤوف مسعد، وكمال القلش. وحسب الروائي صنع الله إبراهيم، لم تكن مناقشاتهم تتناول السياسة. تركّزت تلك المناقشات «على «الكتابة والمحاولات التي يقوم بها كل منا. كنا نعبّر عن معارضتنا للمفاهيم الجامدة لمدرسة الواقعية الاشتراكية فى الأدب والفن، ونسخر من تصريحات خروتشيف حول الفن التجريدي. وهذا ما خلق حساسية في علاقتنا بمحمود أمين العالم».
في السجن، بدأ قاسم روايته الأولى «أيام الإنسان السبعة» (1969) التي مثّلت لدى صدورها «قنبلة» أدبية. اقترب فيها من عوالم الريف، برؤى اختلفت عن الكتابات التي سبقته، مثل أعمال محمد حسين هيكل، ويوسف إدريس. حتى إنّ الناقد عبد المحسن طه بدر خصص لمناقشة الرواية فصولاً في كتابه «الروائي والأرض»، ووصفه إدوار الخراط بـ«كاتب القرية المصرية الأمهر». ورغم الاحتفاء بالرواية، إلا أنّ قاسم لم يستطع نشر أي من رواياته في مصر، ما

قطع مع المرجع الأوروبي مشغولاً بالبحث عن نظرية عربية للجمال
أشعره بالإحباط، فهاجر إلى ألمانيا بين 1974 و1985 بغية «لقاء الحضارة الأوروبية وتجربتها بالحواس الخمس». في برلين حاول إعادة اكتشاف نفسه. تهيّأ لنيل الدكتوراه في الأدب، وتحديداً في «رواية جيل الستينيات». وفي برلين، توالت أعماله المهمّة بين قصة ورواية وشعر وأحياناً. نذكر هنا «جحيم الغرف المغلقة»، و«ديوان الملحقات»، و«المهدي»، و«الأشواق والأسى»... وكانت بيروت تفتح ذراعيها لنشر هذه الأعمال عن «دار التنوير».
سنوات برلين لم تحرره من «عبودية الأماكن»، رغم أنه سافر بحثاً عن ثقافة غربية تصقل موهبته. وعندما قرر إنهاء منفاه الاختياري، عاد مدافعاً عن الثقافة القومية. هكذا ضاق بالبذلة الإفرنجية التى كان يرتديها في برلين، فخلعها على باب داره مرتدياً جلبابه وطاقية الرأس. ثم أعلن قائلاً: «إنّني غير مستعد للتصالح مع النموذج الأوروبي على أي مستوى من المستويات». هكذا دعا إلى احترام مجمع اللغة العربية واتباع قراراته، وإن بدت غريبة، وذلك رداً على من هاجمه لأنه استخدم كلمة «مرنأة» بدلاً من «تلفزيون». وقرر إعادة كتابة «أيام الإنسان السبعة» بعد أن يخلّصها من العامية. باختصار، راح يبحث عن «نظرية جمالية عربية»، فيما العالم العربي لا يزال معتمداً على «نظرية أوروبية». فالثقافة العربية «في حالة دفاع عن ذاتها»، كما يقول، بينما الغربية تحاول «السيطرة على العالم. ويستحيل أن نفسر الأعمال الفنية العربية بثقافة مختلفة جوهرياً في الموقف التاريخي». بعد 20 سنة، ما زلنا نطرح الأسئلة نفسها.

منذ صباح اليوم في «المجلس الأعلى للثقافة» ــــ برنامج حافل بالشهادات والندوات، مع خيري شلبي، وعبد المنعم تليمة، ويوسف القعيد، وسعيد الكفراوي، ومحمد شعير.... للإستعلام: 002227368910


إلى جانب الاحتفالية التي يقيمها «المجلس الأعلى للثقافة» اليوم لعبد الحكيم قاسم في ذكراه، تستعدّ «دار الشروق» لطبع أعماله الكاملة، باستثناء رواية «محاولة للخروج». أما النصوص التي لم تصدر حتى الآن للكاتب، فأهمها «يوميات برلين» التي تحتاج إلى دعم الدولة لنشرها في القطاع الخاص. لقد كتبها على مدى 15 عاماً. وتتميز بالجرأة الشديدة، ما يحول دون طبعها في المؤسسة الرسميّة! وتصدر «دار ميريت» للمناسبة كتاباً للزميل محمد شعير بعنوان: «كتابات نوبة الحراسة: رسائل عبد الحكيم قاسم».