«فضاء الحريّة الأخير في الأزمنة الصعبة» دمشق ــ أنس زرزر
مراحل مختلفة مرت بها تجربة نضال الأشقر، كانت فيها شاهدة على العصر الذهبي للمسرح اللبناني والعربي وصانعته في آن معاً. روح ستينيات القرن الماضي أيام «محترف بيروت للمسرح» لم تفارقها، بل كانت الحافز على افتتاح «مسرح المدينة» في حي كليمنصو البيروتي أولاً، في عام 1994، قبل الانتقال إلى سينما «سارولا» في شارع الحمرا عام 2005. العراقيل العديدة لم تقف حائلاً دون تحويل مشروعها إلى محترف فني ثقافي، يهدف إلى تكريس حالة مسرحية فاعلة.
التقينا الفنانة اللبنانيّة التي تقف على حدة فوق الخشبة العربيّة، بعد وصولها إلى دمشق لتقدّم، منذ أمس، أحدث عروضها في «دار الأوبرا». وجدناها في حالة من الإثارة التي تفرضها الاستعدادات الأخيرة: «أعمل حالياً في «مسرح المدينة» مع مجموعة ممثلين شباب ومستقلين فكرياً، بطريقة تتقاطع إلى حد ما مع «محترف بيروت للمسرح» الذي أسّسناه مع روجيه عسّاف في عام 1968، لكن في ظل ظروف مختلفة تفرضها الحالة الراهنة. أحلم بتحويل «مسرح المدينة» إلى مدينة للمسرح بالتعاون مع هؤلاء الشباب». في «قدام باب السفارة الليل كان طويل» الذي تستضيفه حالياً «دار الأوبرا» الدمشقيّة بعد جولة واسعة بدأت من بيروت وشملت البحرين وإيطاليا وفرنسا، البروفات هي جزء من شكل العمل النهائي. مساحة كبيرة من الارتجال، تمنحها الأشقر لممثليهافي كل مرة. لكنّ الضوابط الدراماتورجية في التقطيع وتسلسل المشاهد ورسم الحركة على الخشبة تبقى حاضرة دائماً.بالحيويّة التي طالما عرفناها بها، تشرح La Mama: «ما زلت أعمل بالطريقة نفسها التي تدرّبت عليها على يد معلمتي المخرجة البريطانية المسرحية جون ليتلوود (1914 ـــ 2002): النص يجب أن تكتبه أقدام الممثلين على الخشبة. أنا ضد جميع العناصر الثابتة في تجربتي الإخراجية. كل شيء قابل للتعديل، لكن ضمن سياق محدد وواضح، يخدم الفكرة التي أحاول إيصالها». تعاونت نضال مع عيسى مخلوف (الشاعر اللبناني المقيم في باريس) في كتابة النسخة الأولى من العمل الذي يعالج فكرة تؤرقها منذ زمن بعيد: هاجس الهجرة لدى الشباب العربي. توجّهت إلى الممثلين الشباب من خلال موقعها الإلكتروني، وإذا بطلبات المشاركة يفوق عددها المئة. «وجدت صعوبة بالغة في اختيار 14 ممثلاً وممثلة. ولو كنت أمتلك القدرة الكافية لجعلت المسرحيّة تتسع لخمسين منهم». ما سيفعله هؤلاء لاحقاً على الخشبة، بتحريض من الفنانة الرائدة في هذا النوع من المسرح، هو تقديم معاناتهم الشخصية: «خضنا تمارين مرهقة، قائمة على الارتجال كمرحلة أولى. خضع النص لتعديلات بالجملة، وأعدت صياغته أكثر من مرّة، إلى أن كتبت صيغته النهائية بالتعاون مع الصديق عيسى مخلوف».
لجأت الأشقر إلى حلول إخراجية قامت أساساً على التغريب وكسر الإيهام، ومحاولة إشراك الجمهور في العرض ولو بالحد الأدنى. كل واحد من الممثلين الشباب قدّم حكايته الشخصية، كأننا أمام مسرحيات متعددة، يجمعها فضاء واحد. يعتمد العرض أيضاً، إمعاناً في التغريب، على مجموعة من الأغنيات واللوحات الكوريغرافيّة. هكذا اقتربت نضال من حلم «الممثّل الشامل» يمثّل ويعزف ويغنّي ويرقص ويجسّد قصّته على الخشبة. كذلك قدمت المخرجة قراءتها الذاتية للموروث الشعبي، من خلال شخصيتي «أبو العبد» و«أبو صطيف» ضمن قالب فني جديد، اعتمد على تقنيّة الراوي وقد تزاوجت مع أغنية الراب: «لا أحاول هنا تقليد مسرح «السامر» المصري، أو محاكاة شخصية «الفرفور» في صيغة لبنانية، لكنني وجدت المقترح الذي قدمه الممثلان، مناسباً تماماً، ويخدم الحالة الاحتفالية وفكرة العرض. مقابل الـRAP، أدخلت عدداً من الأغنيات اللبنانية القديمة، للإحالة على هجرات سابقة مطلع القرن التاسع عشر».

«النص المسرحي يجب أن تكتبه أقدام الممثلين على الخشبة» (جون ليتلوود)

ويسلّط عمل نضال الأشقر الجديد نظرة انتقادية لاذعة إلى الواقع الراهن الذي يعيشه المجتمع اللبناني. هناك مشاهد تجسّد الصراع العبثي بين مختلف التيارات السياسية في لبنان، ومشاهد أخرى تظهر الزيف والتناقض الذي ينزلق إليه اللبنانيون كلّما حاولوا حل مآزقهم. كل تلك العناصر قُدمت بأسلوب ساخر، يجمع بين الضحك والمرارة على حد سواء. على الرغم من حالة الانحسار التي تعيشها الحركة المسرحيّة العربيّة اليوم، بين تشتّت وضياع وفقدان للمراجع والمعايير، تفاجئك «لا ماما» بقدرتها الدائمة على التفاؤل، وبطاقة حيويّة لم تنل منها السنون. لعلّ السر يكمن في أن نضال الأشقر لا تزال وفية لحلمها القديم، مصرّة على مواصلة مشروعها المسرحي الذي يعود إلى زمن الأفكار والطموحات الكبرى: «المسرح ليس وسيلة لإشعال الثورة، لكنّه الثورة بحدّ ذاته. نحن في حاجة الآن إلى حركة فكرية ثقافية جديدة، تنشلنا من الضياع الذي نعيش فيه. والمسرح، في اعتقادي، يبقى المكان المثالي الذي يستطيع فيه الفرد أن يستعيد الكلمة المصادرة، أن يعبّر عن أفكاره وأحلامه، أوجاعه وتطلّعاته. إنّه الفضاء النموذجي للحريّة في الأزمنة الصعبة».


8:00 مساءً ــــ ثلاثة عروض ابتداءً من اليوم ـــ «دار الأوبرا»، دمشق ــــ للاستعلام: 00963112256165
www.opera-syria.org