حقبة صاخبة من تاريخ بلاده، يرصدها الروائي السوري في «حجر السرائر» (كتاب دبي الثقافية). محاكمة لا تستثني أحداً، في ظلّ الانتداب الفرنسي والانقلابات المتتالية، برفقة فوزي الغزي «أبي الدستور» السوري
خليل صويلح
فيما كان منكباً على كتابة رواية ظل يؤجلها أربعة عقود وتتعلق بالفترة التي عاشها في سلك التعليم في مدينة الرقة على ضفاف نهر الفرات، ألحت على نبيل سليمان فكرة رواية ثانية لم يستطع مقاومة إغوائها، وفقاً لما يقوله. هكذا، وضع مسوّداته جانباً، ليلتفت إلى رواية أخرى بطلها فوزي الغزي (1897-1929) الذي يُعرف باسم «أبو الدستور». فقد كان هذا المحامي الشاب الذي درس القانون في الآستانة، أول من وضع مسوّدة للدستور السوري، لكنه انتهى مسموماً على يد زوجته، بمؤامرة من حكومة الانتداب الفرنسي، وطويت القضية التي شغلت الشارع السوري حينذاك. هذه المناخات هي عتبة نصه «حجر السرائر» (كتاب دبي الثقافية). في هذه الرواية، يراود صاحب «مدارات الشرق» مناطق شائكة حول معنى الدستور والقانون وما تعرّضا له من انتهاكات في ظل الانقلابات العسكرية المتتالية.
حضور قوي للراديو الذي كان يبثّ بيانات الانقلابيين
جرياً على عادته في اختراع أسماء متخيّلة لشخصيات واقعية، سيتحوّل فوزي الغزي إلى رمزي الكهرمان، وسنتعرّف إلى زوجته باسم درة حفظي، فيما تحتل ابنته نديدا مساحة السرد، لتنبثق خطوط جانبية تتكشف عن صراعات تلك الحقبة الصاخبة في الشارع السوري في ظل الانتداب الفرنسي. هكذا تلتقي درة حفظي المحكومة بالإعدام المقدّم حسني الزعيم في السجن، ويعدها بإصدار عفو عنها حالما يحكم سوريا. تهديه درة حجراً من الكهرمان كي لا يتسلل الخوف إلى قلبه. هذا الميراث العائلي من الأحجار الكريمة، سيحمي الضابط المتمرّد حتى يقوم بأول انقلاب عسكري في سوريا، ويطيح رئيس الجمهورية، بعد خمس سنوات من خروجه من السجن. وسيصدر عفواً عن درة حفظي وفاءً لوعده القديم. أول من تلقف الخبر هو الصحافي ربحي أبو شلّة، زوج ابنتها نديدا، لكن الابنة التي تربت في بيت عمها عبد الواسع كهرمان، ودرست الحقوق لإكمال مسيرة والدها في حماية القانون، ترفض الاعتراف بهذه الأمومة الملعونة، بل ستنخرط في صوغ قوانين مقترحة لحماية دستور البلاد من نزوات العسكر، خصوصاً جرائم الاغتيال السياسي. وستجد نفسها وسط سيل من المؤامرات والدسائس، والانقلابات العسكرية المتتالية، إذ سيمثّل بجثة حسني الزعيم على يد ضابط آخر هو سامي الحناوي، وسيتكرر السيناريو على يد أديب الشيشكلي. هكذا، يميط سليمان اللثام عن العطب الذي أصاب البلاد، إثر خروج العسكر من الثكنات إلى الشارع السياسي. وإذا بالحكم العرفي يكمّ الأفواه، ويضيّق على الحريات، ويعبث بالدستور، فيما كانت الأحزاب تتصارع على كعكة السلطة. يتناوب الراوي والصحافي رباح أبو شلّة في أرشفة تلك الحقبة العاصفة. الراوي في وصف أحوال البلاد وتحولاتها، وعدسة الصحافي في توثيق وقائع وأسرار صحافة الأربعينيات والخمسينيات. هكذا، نتعرّف إلى أسماء عشرات الصحف التي كانت تصدر حينذاك، قبل احتجابها بأوامر عسكرية، إلى صعود طبقة برجوازية تسعى إلى تأصيل مجتمع مدني. بعد طلاقها، لن تتزوّج نديدا ضابط الاستخبارات بدر الدين أتماز، رغم تعلّقها به، بل ستقع في حب غزال حاج تميم، المهندس العائد من باريس، كأنّها في حيرتها وضياعها صورة أخرى للبلاد. يحشد صاحب «أطياف العرش» أسماء صحف وشخصيات وأمكنة، كان لها تأثيرها في فك ألغاز تلك المرحلة. هكذا نلتقي أدونيس في صفوف الحزب القومي السوري الشاعر المناهض للوحدة العربية، وميشيل عفلق في تطلعاته القومية، ونزار قباني في قصائده التحريضية، وساطع الحصري، وعمر نقشبندي، فيما يحتل الراديو ركناً أساسياً في تأثيث المكان والحدث: أليس الراديو ما كان يبث بيانات الانقلابيين؟ لكن مهلاً، أليس هؤلاء العسكر الذين كانوا يعدون البلاد بأنها ستكون «سويسرا الشرق»، هم الذين أسهموا في نكبة فلسطين وهزائم أخرى، وأحيوا نزاعات طائفية في صفوف الجيش (اغتيال العقيد محمد ناصر)، وجلبوا الأحكام العرفية، وخنقوا أطياف التعددية؟ الراوي يتهم كل هؤلاء، في نزوع سردي بوليسي متواتر، ممزوجاً بعامية دارجة، بإطاحة تطلعات البلاد في مساءلة لا تستثني أحداً.
«حجر السرائر» رواية التاريخ كلغزٍ ينبغي تفكيكه لفحص ما آلت إليه الأحوال، وأسباب المحن المتلاحقة التي أغرقت البلاد في جحيم متواصل، كأن قدر سوريا هو قدر نديدا الكهرمان في بحثها عن هويتها الممزقة، وتطلعاتها في الخروج من شرنقة الأنوثة المجهضة، فقد كانت أول امرأة تقود سيارة في شوارع دمشق، فهل ستنجو من حادث محقق؟