فيلمه «عسل» الذي افتتح «مهرجان دمشق»، حلقة أخيرة من ثلاثية بدأت مع «بيض» (2007)، وتواصلت مع «حليب» (2008). مناسبة لاكتشاف السينمائي التركي الذي ينتمي إلى جيل يراهن على بلاغية الصورة
زياد عبد الله
تمضي الحياة معكوسة أو مستعادة، ويمكن البيْض أن يكون مجازاً عن منتصف العمر، بينما تمسي المراهقة بيضاء كالحليب، إلى أن نبلغ عسل الطفولة. بهذا الاختزال يمكن توصيف ثلاثية السينمائي التركي سميح قبلان أوغلو (1963): «بيض» (2007)، و«حليب» (2008)، و«عسل» (2010) الذي افتتح «مهرجان دمشق السينمائي»، ونال قبل ذلك جائزة «الدب الذهبي» في «مهرجان برلين السينمائي» الأخير.
يحضر الاسترسال بقوة في العوالم التي يقدمها أوغلو في ثلاثيته. وينطبق ذلك على أعمال مخرج بحجم نوري جيلان الذي يمثّل مع أوغلو أبرز السينمائيين الأتراك حالياً، ومعهما جيل جديد يجتمع على حساسيات متناغمة ومتشابهة تستثمر في البيئات وتنويعاتها العرقية والمناخية، والإيقاع البطيء واللقطات الطويلة، والرهان على المشهدية وبلاغيات الصورة مع التقشف في الحوار.
هذه الخصائص يمكن تتبعها في تجارب إخراجية ظهرت في السنتين الأخيرتين، مثل أوزغان ألبير في باكورته «خريف» الذي يروي قصة معتقل سياسي يعود إلى قريته، وفيلم ييشيم أوسطا أوغلو «صندوق باندورا» الذي يحكي رحلة بحث الأبناء الثلاثة عن أمهم المفقودة، وبدرجات أقل في فيلم بيلين إسمر «10 حتى 11» حيث الرهان هنا على مصير مدحت المحاصر بالتذكارات، وكذلك الأمر مع فيلم «المسبحة الخطأ» لمحمود كوشكان حيث يقع مؤذن شاب في غرام امرأة كاثوليكية.
مع سميح قبلان أوغلو، يمكن الحديث عن الفيلم القصيدة. التوصيف الذي يميل إليه أوغلو نفسه وهو يرى في الفيلم حساسية شبيهة بالقصيدة، يمكن لفاصلة في غير مكانها أن تسيء إليها. وفي تتبع ذلك عبر ثلاثيته، فإنّ التكثيف والاختزال سيكونان عنصرين حاسمين في السرد البصري، ودائماً مع لقطة افتتاحية طويلة.
إيقاع بطيء، ولقطات طويلة، ورهان على المشهدية، وتقشّف في الحوار
في «بيض»، نرى امرأة عجوزاً قادمة من بعيد باتجاه الكاميرا، إلى أن يحتل وجهها الكادر بأكمله. ثم تخرج من الكادر من دون قطع للقطة، ونشاهدها تعود من طريق أخرى موازية للتي جاءت منها. بعد ذلك، سنعرف أنها أم يوسف التي توفاها الأجل.
في «حليب»، رجل جالس إلى طاولة يكتب على دفتر صغير، ثم نراه يعلّق امرأة من رجليها إلى شجرة، فيما هناك قدر تغلي تحتها. وبطريقة أشبه بتعزيمها (الرقية)، تخرج أفعى من فمها. الأفعى التي سرعان ما تحضر في سياق الفيلم مع أم يوسف، والرجل الذي يقوم بتعزيم المرأة هو المنقّب عن الآبار الذي يرافقه يوسف، ونتعرف إلى ابنه في «بيض» الذي يكون عاشقاً لقريبة يوسف.
اللقطة الافتتاحية الأطول ستكون في «عسل» حيث والد يوسف مع حماره قادم من بعيد. حالما يقترب، ينظر إلى أعلى ويبدأ بتسلق شجرة عالية بحبل سرعان ما ينقطع فيبقى معلقاً بين الأرض والسماء إلى أن نعود إليه في الجزء الأخير من الفيلم.
تنقلات يوسف في الأفلام الثلاثة هي تنقلات الشاعر. هو رجل في أواخر الثلاثينيات في «بيض»، يعود إلى قريته ليشهد دفن أمه. يحمل بيضة حمامة في راحة كفه سرعان ما تنكسر في أحد مناماته، بينما نجده في مشهد آخر عالقاً في بئر يصرخ ولا أحد يسمعه، وإيلا الفتاة التي كانت تعتني بوالدته، لا تعثر على بيضة في قنّ الدجاج إلا في نهاية الفيلم.
ستمر حياة يوسف كاملة وهو يمدد إقامته في القرية من أجل أضحية أوصت بها أمه. تفاصيل حياته وإيلا، كلّ ذلك قد يُسرد بلقطة واحدة أو عبارة في حوار مقتضب مع صديق قديم، كأن نتعرف إلى حبّه الأول، وإلى أنّه شاعر، ونعرف كل ما خلّفه وراءه بعدما ذهب إلى إسطنبول ولم يزر قريته لأكثر من عشر سنوات.
أم يوسف المتوفاة في «بيض» تحضر أيضاً في «حليب»، وابنها غارق دوماً في الكتب والكتابة. تفتش في أول قصيدة منشورة له عن الفتاة التي يحبها، وهو يساعدها في أعمالها ويبيع الحليب. وسرعان ما تهمله أمه حين تقع في غرام عامل محطة القطار، فيعيش يوسف سلسلة من الخيبات وصولاً إلى اكتشافه أنّه مصاب بالصرع حين يُعفى من الخدمة العسكرية.
يوسف يتيم الأب في «حليب»، نتعرف إلى والده في «عسل»، وهو يجد صعوبة في النطق، ولا يتكلم مع والده إلا همساً. ذلك أن الأحلام لا تروى إلا همساً. ولعل الفيلم لا تفارقه للحظة الأجواء الحلمية. يوسف لا يقوى على حفظ شيء إلا قصيدة يسمع فتاة في المدرسة ترددها. هو لصيق دوماً بوالده، يجد فيه كل عالمه، بينما نسر أبيه يرافقه في طريقه إلى المدرسة، التي حالما يعود منها يمضي مع والده ليساعده في أعماله. لكن الأب يمضي في رحلة بحث عن العسل ولا يعود، إذ يسقط من الشجرة التي يتدلى منها في بداية الفيلم.
الأفلام الثلاثة متصلة ومنفصلة في آن، تجتمع على جماليات يتسيّدها السرد البصري في غياب تام للموسيقى التصويرية. بل إن الدقائق العشرين الأخيرة من «حليب» لا تحوي كلمة واحدة، إذ تتولى المشاهد سرد كل شيء، مستثمرةً الطبيعة ونبضها المتناغم، ونبض الشخصيات، لنكون أمام ثلاثية الحياة في دورتها الكاملة.