حرّاس الصمت» محطّة أساسيّة في «مهرجان دمشق السينمائي» الذي اختتم مساء السبت. لكن سمير ذكرى تشاغل بعقد الخمسينيات عن الغوص في سيرة الكاتبة السوريّة المتمرّدة
دمشق ــ خليل صويلح
تبدو المفارقة واضحة حقاً حين تتعلق المسألة بالسيرة الذاتية العربية. هناك منطقة محظورة لجهة المكاشفة وهتك المستور، حتى لو كانت هذه السيرة لكاتبة متمرّدة مثل غادة السمّان. «حرّاس الصمت» للمخرج سمير ذكرى (إنتاج المؤسسة العامة للسينما) الذي عُرض ضمن «مهرجان دمشق السينمائي» (راجع الكادر)، وهو مقتبس عن «الرواية المستحيلة: فسيفساء دمشقية» للكاتبة السورية المعروفة، مثال حيوي على المخبوء والمضمر في طيات هذه السيرة. ويحضرنا فيلم Hours «الساعات» للبريطاني ستيفن دالدري الذي تناول سيرة فرجينيا وولف كنموذج مضاد. تأتي مفردة التمرّد هنا في سياق يوميات مراهقة مشاكسة في محيطها العائلي، بتحريض ومباركة من والدها المحامي الذي درس القانون في باريس الأربعينيات. تسعى «زين الخيّال» إلى أن تصبح كاتبة على خطى والدتها هند الرشيدي التي ماتت بسبب القيم البالية، لكنّنا بالكاد نعرف ماذا تكتب. هناك إشارة إلى مقال منشور لها في مجلة «النقاد» الدمشقية. عدا ذلك، فالشريط يقع في إعادة إنتاج حقبة الخمسينيات وأمواجها السياسية المتلاطمة، ليغرق في تفاصيل بيئية لطالما استهلكتها أعمال تلفزيونية بالجملة. هكذا يمضي صاحب «وقائع العام المقبل» بمشروعه السينمائي على أرضية فكرية أولاً، مهموماً بأسئلة النهضة والتنوير باستشهادات من أقوال عبد الرحمن الكواكبي الذي أنجز شريطاً عنه بعنوان «تراب الغرباء»، من دون اعتبارات جوهرية لبنية الفيلم كسرد بصري أولاً. ستصادفنا مشاهد فولكلورية من الموروث الدمشقي بإطالات غير مبررة مثل مشهدي الحمّام والمولوية. لكن ما يحسب للمخرج الذي كتب سيناريو الفيلم بنفسه، قدرته على بناء سرد مواز للنص الأدبي عبر تقنية تعدد الأصوات، إذ تنسحب الشخصية من الكادر لتروي وجهة نظرها بالحدث، فيما تهيمن الراوية زين (نجلاء الخمري) على بقية تفاصيل الذاكرة. تحضر الطفلة بمشاهد استرجاعية للطقوس العائلية التي نشأت فيها، والمراهقة وانخراطها في تحولات الشارع السياسي.
غابت اللقطة المدروسة بإحكام لمصلحة حوارات طويلة لا تغني السرد
لكنّ الشريط الذي نال تنويهاً خاصاً من لجنة تحكيم المهرجان، سيبقى حذراً في ملامسة جماليات المكان الخارجي لأسباب إنتاجية ربما. المكان يحضر في الرواية الأصلية كمفصل أساسي في العمارة الدراميّة، فيما تذهب العدسة في فيلم سمير ذكرى إلى تفاصيل البيت الدمشقي من الداخل. كأن هذا الخيار صورة موازية لذاكرة الطفلة، ومحاولاتها المتكررة في الطيران خارج الأسوار المغلقة، واللحاق بروح أمها التي يحضر شبحها في ثنايا الشريط كنموذج يحتذى في التمرد. لكن هذا النموذج أتى قبل أوانه، فتدفع الأم حياتها ثمناً له، ما يقود الابنة إلى إكمال سيرة والدتها كصورة أخرى عنها.
لا تكتفي زين بالطيران عبر أحلامها الليلية فقط، بل تحقق أمنيتها في الواقع، عندما تتبرع بمرافقة طيار ألماني في رحلة تجريبية لإحدى الطائرات الشراعية في دمشق، ثم تخضع لدورة في الطيران وتتمكن من قيادة الطائرة. في المشهد الأول، تشهد الطفلة مقتل إحدى قريباتها بتهمة فقدان بكارتها، إذ تُدبّر لها حادثة فتقع من أعلى السطح إلى الشارع للتخلص من «عارها». لكنّ الطفلة ستطيّر جثمانها إلى السماء في ملاءة بيضاء مستعارة بوضوح من حادثة اختفاء ريميديوس في رواية ماركيز «مئة عام من العزلة». هكذا يُغلق سمير ذكرى القوس بين المشهدين الأول والأخير بحادثة طيران حقيقية، كأن زين تجاوزت الأسوار الاجتماعية التي كانت تضغط على تطلعاتها في التمرد بجسد آخر أكثر حريّة وانطلاقاً. ألم تخضع لدروس في الرقص؟ لكن هذه التحوّلات لم تجد مسالك لها في محيطها العام، أو حتى في كتاباتها التي ظلت مجهولة، في محيط غارق في الغيبيات والخوف والعزلة.
ساعتان ونصف ساعة أثقلت الشريط بتفاصيل جانبية، كان بالإمكان الاستغناء عنها بمونتاج صارم، يخفّف من الإيقاع البطيء الذي أصاب مفاصل الحبكة بدروس فكرية وإيديولوجية يُدرجها سمير ذكرى في أفلامه كلها. هكذا، تفلت منه اللقطة المدروسة بإحكام، لمصلحة حوارات طويلة لا تغني السرد، بقدر ما تنهكه بمطبات بصرية مثقلة بالرموز والمجازات الفائضة عن حاجة المتلقّي. نشير هنا إلى الدجاجة المذبوحة ليلة العرس، بلقطات متناوبة مع صورة العروس، أو إلى صور زعماء البلاد المرصوفة على جدار غرفة الجدة، خلال فترة الانقلابات، وصولاً إلى عهد شكري القوتلي (1957)، المرحلة التي ينتهي عندها زمن الأحداث، مع التطلع إلى وعد زعيم آخر هو جمال عبد الناصر. كأن هذه البلاد منذورة للطغيان بكل أطيافه.
نخرج من الفيلم ونحن نتساءل: هل هذه صورة دمشق في الخمسينيات بكل غليانها؟ وهل هذه سيرة غادة السمّان حقاً؟ ذلك أنّ شحنة التمرّد بقيت مؤطرة عند حدود قبلة مختلسة على خدّها من حبيبها الأول، وإذا بـ«القبيلة تستجوب القتيلة» مرةً أخرى.


رشيد بوشارب متوّجاً في دمشق

اختتم مساء السبت «مهرجان دمشق السينمائي الدولي» بدورته الـ18 مع توزيع الجوائز. هكذا، انتزع الفيلم الجزائري «خارجون عن القانون» لرشيد بوشارب جائزتين هما أفضل فيلم عربي، والجائزة الذهبية لمسابقة الأفلام الطويلة، فيما نال الفيلم الإيراني «يرجى عدم الإزعاج» الجائزة الفضية للأفلام الطويلة، والفيلم السوري «مطر أيلول» البرونزية.
وفي الأفلام القصيرة، نال الفيلم البلجيكي «الأرجوحة» الجائزة الذهبية، والفضية للفيلم السلوفاكي «حجارة»، والجائزة البرونزية للفيلم التونسي «موجة».
وحظي جورج بستلينو بجائزة أفضل ممثل عن دوره في الفيلم الروماني «إذا أردت أن أصفر فسأفعل»، فيما كانت جائزة أفضل ممثلة من نصيب غابريلا شمايتي عن دورها في الفيلم الألماني «مصففة الشعر». أما «جائزة مصطفى العقاد» لأفضل إخراج، فذهبت إلى إريها إيرود عن الفيلم التركي «كوزموس».