مانويل جيجي: «ظلال» المرأة العربيّةدمشق ـ أنس زرزر
اختار مانويل جيجي أن يعيد تقديم نصّ «الآلية» للأميركية Sophie Treadwell التي احتفل عالم المسرح بالذكرى الثلاثين لرحيلها، على خشبة «مسرح القباني» في دمشق. وكان قد سبق لهذا المسرحي السوري أن خاض التجربة مرّة أولى في عام 1994، مع فرقة «المعهد العالي للفنون المسرحية»، فنال حينذاك جائزة أفضل عرض مسرحي متكامل وأفضل سينوغرافيا في «مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي». في النسخة الجديدة، يحاول التحايل على عناصر العرض، والخروج برؤية أكثر حداثة ومعاصرة. ولا شكّ في أن رئيس قسم التمثيل في «المعهد العالي للفنون المسرحية» في دمشق، استفاد من خصائص المدرسة التعبيرية التي ينتمي إليها النصّ، لكونها قامت أساساً في ألمانيا مطلع القرن العشرين، على هدم جميع الأنماط والقيود والقوانين المسرحية المكرسة. انطلقت صوفي تريدويل (1885 ـــــ 1970)، في كتابة «الآلية» Machinal من جريمة هزَّت مدينة نيويورك عام 1928: امرأة قتلت زوجها في سورة غضب مفاجأة، رغم طبيعتها المسالمة الخانعة. وقد اشتغل جيجي على الحبكة، ليعكس صورة المرأة العربية ومعاناتها، لكونها لا تختلف كثيراً عن معاناة تلك الأميركية قبل نحو قرن من الزمن. عمِل على اختصار مشاهد المسرحية التسعة، وتكثيفها، وإلغاء تفاصيل تقريرية كثيرة منها، فأخرج المسرحية من إطارها الأصلي المحدّد في الزمان والمكان. تحوّلت الخشبة إلى فضاء مفتوح الجهات، حدَّد معالمه السينوغراف ومصمم الديكور نعمان جود، مكتفياً بسرير صغير توسط الخشبة، وبعض قطع الإكسسوار، وبرميل قمامة، وجدران أشبه بالكواليس المتحركة. واستخدمت عناصر الديكور هذه بأسلوب ديناميكي لتنقلنا إلى فضاءات مختلفة، ساعدت الإضاءة (نصر الله سفر) في خلقها: من السجن، إلى قاعة المحكمة، فالمنزل البسيط، والبار، والمستشفى، ومكان العمل وغيرها... هذا الكلام ينطبق أيضاً على المؤثرات الموسيقية (جيجي، آري سرحان) التي رافقت بداية العرض، وما لبثت أن تراجعت مع نهايته.
يستعيد العمل السنوات الستّ الأخيرة في حياة هيلين جونز (تؤدي الدور بإتقان رنا كرم) التي أرهقها عملها اليومي الروتيني، فوجدت بزواجها من مديرها خلاصاً وهمياً. لكنّها سرعان ما تصطدم بواقع أكثر مرارة بعد إنجابها طفلة، وتدرك حجم استلابها من خلال علاقتها بزوجها، وبالعالم الذكوري الذي يختصره. عندها تحاول جاهدة الخلاص من ظروفها المحيطة، من خلال الهرب إلى أحضان عشيق سيتخلى عنها. في فورة غضب، تقتل هيلين جونز زوجها، لتواجه مصيرها المحتوم: الإعدام على الكرسي الكهربائي الذي لم نره على الخشبة كما تطلب الكاتبة في النص الأصلي. تخرّج مانويل جيجي (1946) في «المعهد العالي لفنون الجميلة» في مدينة يرفان (أرمينا) عام 1975. ومنذ ذلك الوقت قدّم عشرات الأعمال والتجارب. ومن أهمّها: «أنشودة أنغولا» (1977) للكاتب الألماني بيتر فايس، و«يوميات مجنون» (1975) عن غوغول. كما قدَّم مونودراما «صوت ماريا»، ضمن فعاليات «دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008». يمتاز هذا المخرج بالبحث الدائم عن أماكن أكثر رحابة، والتخلّي عن الأشكال الكلاسيكية والقوالب الجاهزة، وإعداد النص المسرحي بما يتلاءم مع الصورة البصرية التي يوليها اهتماماً خاصاً في جميع عروضه.

تقنية خيال الظل من المرتكزات الإخراجيّة التي تتكرر في معظم أعماله
في «الآلية»، لا يكتفي جيجي باختصار المشاهد إلى الحدّ الأدنى، بل يعمل أيضاً على إيجاد لغة مسرحية خاصة، مزجت بين الحوار بجمل قصيرة سريعة، والمونولوج الدرامي بمفردات أقرب إلى الشعرية. اختصرت جميع الشخصيات الذكورية بممثل واحد هو أويس مخلاتي... لعب الأخير أدوار الرجال جميعاً، من دون أسماء، إذ اكتفى العمل بتوصيفات من نوع: الأب (الأم في النص الأصلي)، والكاهن، والزوج، والعشيق. كما أضاف المخرج شخصية جديدة هي المرأة الشبيهة بالشخصية الرئيسية (روبين عيسى). تفردت هذه الأخيرة بتقديم حوارها بالعامية، وساعدت على ربط مشاهد العرض مع بعضها، وإعطائه نكهة محلية، إضافةً إلى أدوار ثانوية صغيرة قدمها كل من نانسي خوري، وأنس طيارة، والطفلة شهد عوكان.
من جملة الحلول الإخراجية التي قدّمها مانويل جيجي، برزت تقنية خيال الظل. استخدام ساعد في إبراز حضور الشخصية الرئيسية، على حساب باقي الشخصيات التي اقتصر حضورها على خيالها المتحرك فقط. كما أكّد هذا الخيار أهميّة هذا الفنّ الذي عمل مانويل جيجي على تطويره وتقديمه بطريقة معاصرة في عرضه «السمفونية الهادئة» عن نص للكاتب وليد فاضل عام 1988، وبات من المرتكزات الإخراجيّة التي تتكرر في معظم أعماله. ينتهي عرض «الآلية» من دون حلول واضحة لوضع المرأة أينما وجدت، مكتفياً بإثارة جملة تساؤلات عن الأسباب التي أدّت إلى معاناتها
المتواصلة.


حتى يوم غد ــــ «مسرح القباني» (دمشق). للاستعلام: 00963112318019