الحالة الغريبة لبروز محمد مولسهول
حلّ الروائي الجزائري ضيفاً على «معرض الكتاب الفرنكوفوني في بيروت»، حيث وقّع روايته الجديدة «أولمب البؤس» («دار جوليار»). عودة إلى الكاتب النجم الذي كان ضابطاً في الجيش الجزائري خلال السنوات السوداء، ثم أصبح ظاهرة أدبيّة في فرنسا والعالم، بعدما اهتدى إلى المعادلة السحرية

ياسين تملالي
لا شيءَ في طفولة محمد مولسهول كان ينبئ بأنه سيصبح أحدَ أشهر الكتّاب الجزائريين. التحاقه في التاسعة بمدرسة أشبال الثورة العسكرية كان سيجعله «ضابطاً مثقفاً» ربما، لكن ليس أديباً ذائع الصيت.
كيف قُدّر «للشبل» مولسهول أن يصبح نجماً تُرجمت أعماله إلى 36 لغة؟ «شيطان الأدب»، كما يروي في سيرته «الكاتب»، أدرك في المدرسة ـــــ الثكنة أن الكتابة حياتُه كلها. هكذا، قرّر أن يصبح أديباً، واختار الفرنسية، لأنّ أستاذ الفرنسية شجّعه، فيما معلم العربية نهر تلميذه الصغير عندما أطلعه على أولى محاولاته الأدبية بلغة الضاد.
أنهى مولسهول كتابة «حورية» عام 1973، لكنه لم ينشره سوى في 1984، وأصدر بعده أعمالاً أخرى. لكن لا أحد منها كان كافياً ليُعرف في الوسط الأدبي في الثمانينيات. لم يبدأ مشوار الشهرة إلا في 1997، حين أصدر في فرنسا روايتَه البوليسية Morituri تحت اسم مستعار، هو ياسمينة خضرا (اسم زوجته) لأسباب أمنية. تلتها نصوصٌ روائية بوليسية أخرى تُجمع تحت مسمى «الرباعية الجزائرية» (آخر حلقاتها «نصيب الميت»، 2004).
تناوله للتطرف في الجزائر لم يخرج عن دائرة البروباغندا والكليشيهات
وبالتوازي، نشر تحت اسم ياسمينة خضرا روايات أخرى يمكن وصفها بالسياسية، عن مواجهات التسعينيات الدامية بين الإسلاميين والجيش: «خراف الرب» (1998) و«بمَ تحلم الذئاب؟» (1999). تدور أحداث العمل الأول في قرية جزائرية إبان صعود جبهة الإنقاذ الإسلامية (بداية التسعينيات)، وتروي من خلال انفراط عقد شلة أصدقاء بين مساند للإسلاميين ومناوئ لهم، انفراط المجتمع وانهياره تحت ضربات الفكر الأصولي. أما الثانية، فتتبع الطريق الوعر الذي سار عليه آلاف الشبان الجزائريين صوب معاقل الجماعات الإسلامية المسلحة ليكتشفوا فيها زيف «الحرب على الطاغوت».
بعد سنة على مغادرته الجيش، كشف مولسهول عن هويته في سيرته «الكاتب» (2001)، وأردفها عام 2002 بـ«خداع الكلمات» الذي دافع فيه عن ماضيه العسكري. وهنا، أصبحت رواياته تُقرأ لا في الجزائر وفرنسا فحسب، بل في العالم كله. تعولمت كذلك موضوعاتُ مولسهول مسايرةً تطورات الوضع الدولي، فكانت «الثلاثية المشرقية: «سنونوات كابول» (2002) عن جحيم الحياة تحت وطأة طالبان، و«الاعتداء» (2005) عن العمليات الاستشهادية في فلسطين و«صفارات بغداد» (2006) عما سبّبه احتلال العراق من تجذير لكراهية العراقيين للأميركيين.
وفي إطار هذه المسايرة، تأقلمت موضوعاتُه الروائية مع المناخ السياسي في فرنسا، بعدما احتدم الجدلُ بشأن «الحضور» الفرنسي في المستعمرات (هل كان يحمل «مزايا جمة»، أم كان سلسلة فظيعة من المجازر؟). هكذا، كانت رواية «فضل الليل على النهار» (2008)، عن شاب جزائري نشأ بين الأقدام السوداء (أي «أوروبيي الجزائر» المستعمَرة) ومزقته حرب التحرير (1954 ـــــ 1962) بين حبّه لأقرانه الفرنسيين والوفاء لأجداده الجزائريين، هذه الرواية التي يعمل حالياً السينمائي ألكسندر أركادي (المعروف بتعاطفه مع إسرائيل) على اقتباسها للشاشة.
بوسع متصفّح موقع مولسهول (yasmina-khadra.com) أن يقرأ أنّ صاحب «نوبل» ج. م. كويتزي عدّه أحدَ أعظم الكتاب اليوم. لكن أتكفي النجومية لاستحقاق هذا الوصف؟ ليس كلُّ الكتّاب عباقرة خالدين. ما يضمن الخلود الأدبي هو التميّز الفني والأسلوبي، فضلاً عن الهم الفلسفي وعمقه. يصعب الحديث عن تميّز مولسهول أسلوبياً، لا لأنّ أعماله شديدة الكلاسيكية، بل لأنه لم ينتج لغة أدبية صاعقة الخصوصية. ما قد يفسّر تكوينه غير المنفتح على احتمالات المزج بين الأجناس (كاتب ياسين)، وعلى إمكان الاستحواذ الخاص على الفرنسية بما يعطيها طابعاً «غير فرنسي» (رشيد بوجدرة)، وينأى بالعمل اللغوي عن النهل الانتقائي من اللغة الكلاسيكية تارة، ومن كنوز اللغة العامية الشعبية طوراً.
ما هو الهم الفلسفي لمولسهول؟ جذور الأصولية في الجزائر؟ ربما! لكن تحليلَه لا يزيد على مقولات بروباغندا التسعينيات (الكليشيه بأنّ الإسلاميين أبناء خونة تعاونوا مع الاستعمار خلال حرب التحرير، أو وهم انحسار الحركة الإسلامية بعد اكتشاف الشعب وجهها الوحشي). وتضفي عليها بعضَ الوجاهة، إشاراتٌ شبه سوسيولوجية إلى مسؤولية الحكام عن التزمّت الديني. كذلك، لا يتعدى خطابه الروائي عن العنف السياسي في الشرق الأوسط اجترارَ فكرة بسيطة أن التعصب نتاجُ واقع متأزم وليس من طباع المسلمين، ما لا يختلف عليه أحد، حتى باراك أوباما.
لا يكمن تميّز مولسهول في أسلوبه ولا في انشغالاته الفلسفية. أين يكمن إذاً؟ في قدرته على تطويع أدبه للحديث عن هموم الجزائريين الناقمين على الفساد (الرباعية البوليسية)، والسابحين في وحل العنف («خراف الرب» و«بم تحلم الذئاب؟»)، والفرنسيين المنقسمين بشأن «منجزات فرنسا وراء البحار» («فضل الليل على النهار»)، وملايين المتسائلين في الأرض عن جذور هذه الأصولية الإسلامية العابرة للقارات («الثلاثية المشرقية»). يكفينا لنفهم مقدرته الخارقة على إخضاع الموضوع الروائي لقانون الطلب، أن نقارن بين حديثه عن الماضي الاستعماري في «بنت الجسر» (1985) التي لا أثر فيها لـ«ذاكرة التعايش الإنساني» مع «الأقدام السوداء»، وحديثه عنه في «فضل الليل على النهار» (2008) التي يتمزق بطلها بين واجبَي الوفاء لشعبين متناحرين. بين العملين وجد الكاتب معادلته السحريّة، وصعد في عالم النجوميّة.