في العام الماضي أخبرت خبيرة الاقتصاد البيئي لدى البنك الدولي ماريا صراف الناس أمراً واضحاً: «إذا كنتم تعتقدون أن فصل الصيف حار بالفعل، ففكروا مرة أخرى. من المرجح أن يصبح الصيف أكثر حرارة». تحذير صراف، المبني على تقرير للبنك الدولي بعنوان «اخفضوا الحرارة: مواجهة الواقع المناخي الجديد»، لم يلقَ آذانا صاغية لدى اللبنانيين، بالرغم من الإعلان الصريح في التقرير انّ «بيروت والرياض ستسجلان أعلى مستوى زيادة في ارتفاع درجات الحرارة في المنطقة، وسيزداد عدد الأيام الحارة إلى 126 و132 يوماً في السنة على التوالي».
لكن، وكما هو متوقّع، يتعامل اللبنانيون دائماً مع أي ظاهرة أو مشكلة باعتبارها وليدة اللحظة. يتجهون نحو مقاربات سطحية وآنية للأمور من دون التعمّق فيها ومن دون وضعها في سياقها الزمني المتوسط والبعيد الأمد؛ توجّه يعززه الإعلام الحديث وخاصة وسائل التواصل الإجتماعي. يواجه البلد اليوم نموذجين متشابهين لمشكلتين أساسيتين: النفايات وموجة الحر الشديدة. «تفاجأ» اللبنانيون بالنفايات التي أغرقت شوارعهم، تناسوا ان المشكلة جرى التحذير منها منذ مدّة من دون أن يتحرّك أحد. الأمر نفسه يحصل اليوم مع موجة الحر. حالة من «الهلع» تُصيبهم، يقولون: «ما بحياتو صاير هيك شوب». التدقيق قليلاً في كلمة «ما بحياتو» تدلّنا على انّ الذاكرة تقتصر على أشهر قليلة ماضية. فالصيف المنصرم كرّر هؤلاء الجملة نفسها، عانوا حرا شديدا عزّزه انقطاع الكهرباء والمياه، وكالعادة لم يتحركوا ليفرضوا الاهتمام بهذه المشكلة. اليوم، مثل كل صيفية، ارتفعت الحرارة وإنقطعت الكهرباء والمياه وستنتهي الأزمة ليعود هؤلاء لمتابعة حياتهم بشكل طبيعي بانتظار الصيف المقبل وسيفاجأون مجددا بالأمور نفسها. سيناريو «عواصف» و»أعاصير» الشتاء المنصرم، يتكرر مجدداً.

درجات الحرارة في بيروت
سترتفع في السنوات المقبلة بين درجتين الى 4 درجات


وبناءً عليه، فإن التعامل مع الظواهر المناخية لا يمكن أن يجري بالإعتماد على انطباعات الناس وذاكرتهم فقط، إذ إنّ قضية التغيّر المناخي قضية عالمية يجري البحث فيها منذ سنوات طويلة، وقد بدأت الدول تتبع سياسات للتخفيف من مخاطر هذه التغيرات، في ظل غياب كامل للبنان عن هذا الأمر. فهل ما نشهده من ارتفاع في درجات الحرارة يدخل ضمن مؤشرات التغير المناخي؟
يعلن رئيس مصلحة الارصاد الجوية مارك وهيبي أن «موجة الحر مستمرة بشكل مزعج أكثر من الأيام السابقة بسبب ارتفاع نسبي في الرطوبة إذ ان درجات الحرارة اليوم ومنتصف الغد ستكون مرتفعة نسبياً»، ويشعر الناس بالحر أكثر عندما تكون الرطوبة مرتفعة. ويضيف ان «الإنخفاض الملحوظ لدرجات الحرارة سيبدأ يومي الخميس والجمعة وستعود الحرارة الى معدلاتها الطبيعية». يقول وهيبي انّ «المعدل القياسي للحرارة في بيروت هو 40 درجة مئوية، وحالياً وصل معدل الحرارة الى 34 درجة أي انّ درجات الحرارة لا تزال ضمن معدلها الطبيعي، امّا على الجبال فقد وصلت الحرارة الى 38 و39 درجة مئوية نتيجة البعد عن البحر، وهو أيضاً معدل طبيعي». إذاً، وعلى الرغم من موجة الحر والارتفاع الحاصل في درجات الحرارة الا انّ المعدلات لم تتخطَ مستواها الطبيعي وبالتالي لا داعي للتهويل بل للضغط من اجل التفكير والتخطيط لما قد يأتي.
يعتقد مدير أبحاث تغير المناخ والبيئة في معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت نديم فرج الله، أنّ «سبب ارتفاع درجات الحرارة هو أننا في فصل الصيف، وعادةً تحصل موجات حر. لم ندرس بعد قاعدة البيانات الموجودة لدينا لنقارن درجات الحرارة مع السنوات السابقة، لكن أعتقد انّ ما يحصل ليس أمرا غير طبيعي انما مجرد تقلبات عادية ولا تزال الحرارة ضمن معدلها المعتاد، أمّا إذا امتدت هذه الموجة لفترة طويلة وتكررت مراراً، فعندها نبحث في الأسباب والعلاقة بتأثيرات التغير المناخي». يضيف فرج الله انّ «جميع الدراسات التي أجريناها خلصت الى انّ درجات الحرارة في بيروت سترتفع في السنوات المقبلة بين درجتين الى 4 درجات مئوية كحد أقصى، لكن حتى الآن -وما زلنا في مرحلة المراقبة- لا دخل لموجة الحر الحالية بالتغير المناخي». يُنهي فرج الله حديثه بأنه «حتى نهاية شهر تموز كنا نشهد طقساً معتدلاً»، ومن هنا تُطرح خيوط إشكالية التغيّر المناخي.
ينبّه الباحث في معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت رولان رياشي، إلى أن «ما يجب ملاحظته هو التالي: صحيح أن درجات الحرارة لم تتجاوز معدلها الطبيعي، الّا انّ ارتفاع الحرارة فجأة بهذا الشكل هو ما يجب الوقوف عنده، إذ أاننا نواجه ظواهر مناخية فجائية بسبب التغيّر المناخي». يشرح رياشي انه «عوض ان ترتفع درجات الحرارة تدريجياً لتصل الى المعدلات التي شهدناها خلال اليومين الماضيين، نلاحظ انها ارتفعت بشكل فجائي ودخلنا سريعاً في موجة الحر». يقول إنّ «ما نشهده في السنوات الأخيرة هو حالات مناخية متطرفة ومفاجئة، فإما تحدث فيضانات وعواصف ثلجية قاسية مثلما حصل في الشتاء، أو موجة حر شديدة مثلما يحصل الآن»، لافتأ إلى أنّ «أوروبا واجهت في بداية تموز موجة حر أيضاً، وهذه مشكلة عالمية إذ سجلت هذه السنة، على المستوى العالمي، واحدة من أعلى موجات الحرارة منذ أكثر من 100 سنة». يؤكد رياشي انّ «لبنان يتأثر بهذه التغيرات المناخية»، ويحذّر أنه «حتى اليوم لم نشعر فعلياً بانقطاع المياه لأنه لا يزال هناك مياه جوفية، لكن اذا بقيت الحرارة هكذا لمدة اسبوع او اسبوعين فسيلمس الناس نقصا كبيراً بالمياه جراء ازدياد التبخر، وخصوصا ان الحرارة على المرتفعات شديدة»، مشيراً الى «اننا حاليا نرى أننا تأخرنا عن السنة الماضية في ما يتعلق بانقطاع المياه».
يرى الخبراء أنّه على الدولة ان تبدأ بالاستعداد لمواجهة حالات متطرفة كهذه، ويلفت رياشي إلى ضرورة الاستعداد لمواجهة الحرائق عبر تجهيز الدفاع المدني، كذلك التنبّه الى مسألة انقطاع المياه، مشيراً إلى انّ سياسة السدود لا تجدي في ظل طقس متطرف، اذ ستتبخر المياه المجمّعة. إضافةً الى ذلك يجب تجهيز المستشفيات من أجل التعامل مع المشاكل الصحية التي قد تطرأ نتيجة ارتفاع درجات الحرارة. والأهم من ذلك اتباع اجراءات فردية، إذ يجب على الناس ان يغيّروا عاداتهم اليومية من ناحية التنقل واستهلاك الطاقة ونوعية المزروعات…