نحّاس: الوفرة الماليّة تسمح بالجمع بين المقاربتين السياسيّة والمؤسساتيّةخلص وزير الاتصالات، شربل نحاس، خلال ندوة بعنوان «الدولة الممكنة في لبنان» الى أن فرصة إعادة بناء الدولة متاحة منذ عام 2000، إلا أن هناك مقاومة متواصلة من الذين استفادوا من تغييبها واستمدّوا قوّتهم من ضعفها، ورأى أن استعادة مشروعية الدولة وأدوارها وهيبتها يمكن أن تأتي عبر تنازل (إجباري) من القوى التقليدية، فهذه القوى تتمسك بالنموذج القائم، لكنها لم تعد قادرة على توفير الأجوبة المطلوبة في شأن قلق الناس، وبالتالي يمكن اعتبار الظروف القائمة اليوم مناسبة جدّاً للضغط من أجل إحداث التغيير المأمول.
وقدّم نحّاس عرضاً تاريخيّاً لإشكالية الدولة في لبنان، مستنداً إلى الملابسات الاقتصادية والسياسية التي ساهمت بتقوية الطوائف على حساب الدولة، فالطوائف ما كانت لتتعزز لولا تراجع وترهّل وظائف الدولة، وهذا يدفع الى استنتاج رئيسي: إن التغيير يمكن أن يقوم على الجمع بين المقاربة السياسية (بالمعنى المألوف) والمقاربة المؤسساتية، أي عبر إجراءات تعيد للدولة أدوارها من دون وسطاء مفروضين. فكلما قويت الدولة تتراجع قوّة التنظيمات دون مرتبتها.
وتأتي هذه الندوة، التي دعا إليها اتحاد الشباب الديموقراطي اللبناني وأقيمت في قاعة الرابطة الثقافية في بيصور، في سياق التحرّكات من أجل إسقاط النظام الطائفي.
وقالت أمينة سر محافظة الجبل، هناء يحيى، إن اختيار الوزير نحاس لهذه الندوة جاء بسبب خلفيته الثقافية والمهنية والأكاديمية، ولكون الوزارة لم تغرِه والسياسة لم تفسده.
ورأى نحاس أن لبنان يعيش اليوم فرصة جديدة لإعادة الاعتبار لمشروع الدولة، وهذه الفرصة مطعّمة بعوامل مالية مهمّة، فالسيولة متوافرة، والعجز يتراجع، مشيراً الى أن موازنة عام 2010 كانت تتوقع عجزاً إجمالياً يصل إلى 6000 مليار ليرة، لكن المحقق لم يتعدّ 2400 مليار، وهناك فائض أوّلي (قبل تسديد خدمة الدين العام) يصل حجمه الى 3500 مليار ليرة.
وبالتالي إذا جرى التوافق على تعديل النظام الضريبي لكي يطال الريوع العقارية والمالية، فإن الدولة ستكون قادرة مالياً على استعادة مهماتها الأساسية بدلاً من إعطاء أولوية مطلقة لخدمة الدين على سائر مهمات الدولة، وهذا، من دون شك، يسهّل الانتقال الى نموذج مختلف لإدارة شؤون الناس.
وشدد نحّاس في هذا الإطار على ضرورة الإنفاق على تسليح الجيش وتأمين التغطية الصحية للبنانيين وإنشاء مصرف إنمائي محلّي تملكه البلديات لتمويل مشاريع تتخطى حدود كل واحدة منها، كمشاريع النقل والصرف الصحي، التي لا يمكن أن تكون على قياس البلديات المجزأة.
وعزز نحّاس طرحه بتأريخ انهيار مشروع الدولة في لبنان في بداية عقد الثمانينيات، ولا سيما مع انهيار الليرة، التي تجسّد عنصراً من عناصر الدولة وسيادتها، ومع انتقال الصراع الى ترسيم الحدود بين المناطق المفروزة طائفياً، وبهدف السيطرة على إيرادات الدولة ونقل ما بقي من مهماتها الى وسطاء يجسّدون أدوار السفراء لدى الدولة المركزية.
وأشار نحّاس الى أن هذا النموذج ما كان ليعيش كل هذا الوقت لولا الوفورات النقدية التي تؤمنها تحويلات المهاجرين إلى لبنان، فالهجرة، برأيه، تمثّل حاجة أساسية لاستمرار هذا النموذج.
فاتفاق الطائف، مثلاً، كرّس مواقع الكيانات السياسية (الطائفية)، وألزمها بالتآلف في صيغة تعاقدية، لكن ذلك ليس كافياً لتأمين صمود النموذج، إذ لا بد من توفير بعض الشروط، لذلك كان على كل كتلة أن تستولي على إحدى الوظائف الأساسية للدولة لتستفيد من آليات التوزيع، وكان لا بد من وجود حَكَم خارجي لأن كل كتلة باتت تمتلك قدرة التعطيل وهي تعيش في حالة تفاوض مستمر، وكان لا بد من توفير المال للحفاظ على حالة التأطير الطائفي، فهناك عقد فعلي بين القاعدة والزعماء (سفراء الدولة المركزية) للتعويض عن تغييب الدولة، إذ إن التدفق الدائم للمال من الخارج يعوّض قلة إنتاجية النظام القائم ويخفف من آثار صعوبة اتخاذ القرارات فيه... لكنه يعزز التوزيع الزبائني ويدمّر مقوّمات قيام الدولة.
انطلاقاً من ذلك، يمكن فهم هذا التماثل بين تضخّم أعداد المهاجرين وتضخّم الدين العام والقطاع المالي، لأن استجلاب التدفقات يستدعي استمرار الهجرة، وهذا شرط لاستمرار الدور التوزيعي والتعويض عن تغييب الدولة.
وأعطى نحاس مثالاً يُثبت ذلك، هو الإدارة العامّة، فالشباب المتعلمون هم الأكثر قدرة على الهجرة، لذلك يتولّى جيش من الأشخاص الأقلّ كفاءة، والذين تتدنّى حظوظهم في الهجرة، المناصب في الإدارات العامة، ويزداد الولاء للزعماء القادرين على تأمين هذه الوظائف للذين يلجأون إليهم...
ولا تقف الأمور عند هذا الحد، فتراجع كفاءة الدولة في تأدية مهماتها وإصرار الكيانات السياسية على القيام بدور الوسيط مع الدولة المركزية من العوامل التي تدفع بالمجتمع الى اعتماد آليات تكيّف للاستعاضة عن الدولة برمّتها، فتقوم المدارس الخاصة والمستشفيات الخاصة والمولّدات الخاصة والصهاريج الخاصة... بدور البديل، وهذا ينطبق على المقاومة في الجنوب، فعندما تكون الدولة غائبة تكون عاجزة عن حماية الناس، فيضطرون الى اعتماد وسائلهم الخاصة لحماية أنفسهم.
وراى نحاس أن عوامل كثيرة تدفع الى الاعتقاد بأن الفرصة متاحة الآن للتغيير، فالأحداث والتطورات المحيطة بلبنان، ودخول لاعبين جدد، كالتيار الوطني الحر وحزب الله، إلى الخريطة السياسية واستمرار تدفق الأموال بسبب الهجرة وارتفاع أسعار النفط... كلها عوامل تلغي إمكان استمرار الترتيبات السابقة أو إعادة إحيائها... ففكرة الدولة هي ترسيم حدود، هدفها وغايتها إزاحة التأثيرات إلى درجة معيّنة، إذ تقوم الدولة بضبط حركة البشر والبضائع والأموال، وهذه وظائف لم يعد ممكناً تجاهلها.