قبل يومين أصدر النائب العام التمييزي حاتم ماضي، مذكرة بحث وتحرّ بحق كل من عبد اللطيف فنيش المعروف باسم محمود (شقيق الوزير محمد فنيش)، وفؤاد أحمد وهبي في ملف استيراد وإدخال أدوية بوثائق مزوّرة. قيل الكثير في هذه الفضيحة، واستُغلّ اسم عبد اللطيف فنيش لإحراج الوزير محمد فنيش وحزب الله. في المقابل لم تُذكَر أي معلومات عن الهوية المهنية للمتورّطين وأدوارهم في هذا الملف والعمليات التجارية الأخرى، وما علاقة الاسماء المتورطة بـ«حزب الله»، وهل لدى هؤلاء أي ملفات سابقة؟ وما هو الهدف من التزوير المكتشف؟
وحدها الوقائع الصحيحة والمدققة لهذا الملف، تجيب عن غالبية الأسئلة التي تدور حول هذا الملف. نقطة الانطلاق تبدأ بمسار إدخال الأدوية إلى لبنان: وزارة الصحّة تعطي الموافقة لإدخال الدواء إلى لبنان، استناداً إلى فحوصات مخبرية تجريها الشركات المستوردة للدواء للتأكد من مطابقته للمواصفات العلمية. ففي ظل شبه غياب للمختبر المركزي الذي يفحص الأدوية ومطابقتها للمواصفات، اعتمدت الوزارة أربعة مختبرات جامعية مصدراً موثوقاً لنتائج التحاليل المخبرية التي تجرى على الأدوية المنوي إدخالها: الجامعة العربية، الجامعة الأميركية، الجامعة اليسوعية، وجامعة الـ AUST.
وبموازاة ذلك، كانت هناك آلية لمراقبة استيراد الأدوية من خلال اتفاق بين وزارة الصحة ومديرية الجمارك يقضي بأن تتسلّم الوزارة من دوائر الجمارك، يومياً، كشفاً بلائحة الادوية التي أدخلت على الحدود من أجل مقارنتها مع الأذونات الصادرة عن الوزارة.
بنتيجة هذه الآلية، تبيّن أن هناك فرقاً بين الكميات الواردة عبر المعابر الحدودية، وتلك التي أصدرت الوزارة تراخيص إدخالها، فأحيل الأمر إلى التدقيق من قبل التفتيش الصيدلي. هذا الأخير، طلب من المختبرات الأربعة المذكورة، كشف حساب شهري بالتحاليل التي أجريت، فتبيّن من تحاليل الجامعة العربية أن هناك 3 شركات استوردت مجموعات من الأدوية في أوقات مختلفة، بعضها مسجّل لدى الوزارة وبعضها غير مسجّل، لكن جميعها دخل بواسطة نتائج مخبرية مزوّرة، وهذه الشركات هي: Newallpfarm (نيوآلفارم)، Citypharm (سيتي فارم)، Internationalpharm ( انترناشيونال فارم). الأولى مسجّلة لدى وزارة الصحة باسم الصيدلي حسين فنيش، والثانية مسجّلة باسم مؤسسة اجتماعية، والثالثة مسجّلة باسم شوقي عطوي.
في المحاضر الموثقة لدى وزارة الصحة، تبيّن أن عطوي يمرّر كل الفحوصات لشخص اسمه فؤاد وهبي، ووهبي يمرّر الفحوصات للشخص المعروف بأنه محمود فنيش (عبد اللطيف). والأخير يقوم بمعالجة ملفات إدخال الأدوية للشركات الثلاث، ابتداء بالمختبرات إلى التخليص الجمركي... وفي الكشف الذي أرسله مختبر الجامعة العربية، تبيّن أن هناك فحوصات لنحو 90 طبخة (نحو 30 صنف دواء) استوردتها الشركات الثلاث المذكورة ودخلت إلى لبنان بفحوصات مزوّرة، فيما هناك أوراق مزوّرة تابعة لشركة رابعة هي Payalpharm (بايال فارم) التي تورّد للشركة المسجّلة باسم عطوي.
ما هو مستغرب في هذه القضية، أن الأدوية التي كانت تدخل عن طريق هذه الشركات هي أدوية معروفة في مجملها (لها أدوية جينيريك) وغالبيتها مسجّل لدى الوزارة. وقد دخل منها عن طريق الشركات نفسها إلى لبنان بطرق شرعية ومن دون أي تزوير، وبالتالي ليس هناك من داع لإدخال هذه الأدوية بطرق غير شرعية، لا سيما أن التزوير لا يمنح هذه الشركات أي أفضلية في المنافسة ولا أي أرباح إضافية. حتى أن غالبية الأدوية التي صودرت من الكميات التي دخلت بطرق غير شرعية كانت مطابقة للمواصفات وهي موجودة في السوق منذ عام 2007، لا بل لو عُرضت وفق الأصول المرعية لأُعطيت موافقة «بلا جميلة حدا»، لكن من تجرّأ على تزوير التحاليل المخبرية، يتجرأ على إدخال أدوية مزوّرة.
عندما اكتُشف التزوير، طلبت الوزارة من مختبر الجامعة العربية التدقيق في كل الفحوصات الصادرة عنه خلال عامي 2011 و2012، فتبيّن أن هناك 114 فحصاً مزوّراً في عام 2011 ونحو 90 في الأشهر الأولى لعام 2012. وجميع هذه الفحوصات تعود إلى أدوية استوردتها الشركات الثلاث المذكورة. لكن أصحاب الشركات، ولا سيما حسين فنيش والمدير التنفيذي في شركة « سيتي فارم» يؤكدان أن محمود فنيش (عبد اللطيف) كان يخلّص معاملات استيراد لمصلحتهما، لكنه لم يكن وحده يقوم بهذه العملية بل كان لديهما مخلّصان آخران يقومان بعمليات مشابهة، إلا أنه لم يتبين وجود أي تزوير سوى في عمليات عبد اللطيف. فهذا الأخير، هو شخص غير متعلم ويكاد يوصف بأنه أميّ، لا بل ليس لديه أي قدرة على التمييز بين دواء وآخر وفق وصف بعض العارفين، لكنه تمكن من نسج علاقات جيدة مع وزارة الصحة على مدى السنوات الماضية، وصار معروفاً إلى درجة أنه كان الشخص الذي يُستدعى لتخليص المعاملات الصعبة في وزارة الصحّة، لا سيما أنه كان يستحصل تكراراً على توقيع وزرار الصحة السابقين على «إدخال استثنائي» للبضائع (الأدوية).
وتبيّن التحقيقات التي أجريت عن عبد اللطيف، أنه كان يتقاضى عمولات لتخليص البضائع تتراوح بين 2% و10% من قيمة البضائع المستوردة، وأن هذا الأمر مثّل إغراء كبيراً له لتخليص المعاملات سريعاً والحصول على حصّته من العمولة، وهو الأمر الذي دفعه إلى التزوير أحياناً والقيام بالعملية وفق الأصول أحياناً أخرى. وما يعزّز هذه الرواية التي تشير إلى أن عبد اللطيف لم يكن سوى مخلّص معاملات جشع، هو أن العلاقة التجارية بين مؤسسات حزب الله ومؤسسة حسين فنيش لم تكن جيدة. ففي السابق، كان الطرفان قد أسسا شركة استيراد أدوية اسمها «Servipharm» ثم اختلفا منذ نحو 8 سنوات على إدارة الشركة وأرباحها والاستثمارات فافترقا وذهب كل منهما في طريقه.
في النهاية، لم يكن أمام وزارة الصحة سوى إحالة الملف إلى النيابة العامة التمييزية عبر هيئة القضايا في وزارة العدل في 12 تشرين الأول. وفي اليوم التالي، أحالها النائب العام التمييزي بالإنابة سمير حمود إلى المباحث الجنائية التي أطلقت تحقيقاتها وتوصلت إلى نتائج شبه مطابقة لنتائج تحقيقات وزارة الصحة، وفق العارفين. وقد تبيّن أن فؤاد وهبي (دُهِم مستودعه أمس لمصادرة كميات من الأدوية)، وهو يحمل الجنسية البرازيلية وقد ادّعت ابنته أنه موجود حالياً في لندن، أدلى بإفادة يجزم فيها أنه طلب من عبد اللطيف فنيش إنجاز معاملات تخليص دخول أدوية لمصلحة الشركة التي يمثّلها شوقي عطوي، وهي 3 معاملات جرى التزوير فيها وفق الآتي: الموافقة على الإدخال (تزوير توقيع الوزير)، تزوير التحاليل (نتائج فحوصات مخبرية وهمية).
في هذا الوقت، تبيّن أن وهبي الذي يبلغ من العمر ستين عاماً تقريباً، متورّط في 3 قضايا قضائية سابقاً لكن لم يبت بأي منها بعد. القضية الأولى هي القضية الأكثر شهرة التي تبيّن فيها أن كميات من الأدوية السرطانية كانت تستعمل في المستشفيات لكنها كانت عبارة عن ماء، وقد أوقف وهبي وطبيب في مستشفى الحياة في هذه القضية ثم أفرج عنهما لاحقاً. وفي وقت سابق من عام 2008 تبيّن أن وهبي متورّط أيضاً بقضية أدوية مزوّرة، وأنه ليس قيد التوقيف فيها، وهذا ينطبق أيضاً على قضية مشابهة ذُكر اسمه فيها في عام 2007.
اللافت أن عطوي ووهبي وقعا في إفادتهما على أن عبد اللطيف (محمود فنيش) هو الذي كان يخلّص لهما المعاملات وأنه لا علم لهما بقيامه بالتزوير! وما هو واضح، أن وهبي ليس له أي ملف في وزارة الصحة، لا بل ليس له وجود هناك، خلافاً لمحمود فنيش الذي كان معروفاً في الوزارة ولم يكن أحد على علم بأن اسمه عبد اللطيف، فمنذ أكثر من 7 سنوات استمر محمود بتخليص المعاملات في الوزارة والمختبرات، وكان يمرّ على موظفي الوزارة بصورة شبه يومية، ويعرفهم جيداً.
وبحسب وزارة الصحة، فإن عطوي كان له ملف في وزارة الصحة، وكان يشارك أحياناً في مناقصات استيراد الدواء لمصلحة الوزارة، وكان يحصل على بعض المناقصات كما هو معروف، فهو صاحب شركة معروفة في هذا المجال، على عكس وهبي الذي ظهر اسمه في ملفات فضائحية. غير أن هذا الأمر لا يأتي في إطار إطلاق الأحكام أو المديح، فالتحقيق وحده قادر على اكتشاف عملياته التجارية وتوثيقها والنمط الذي كان يعمل وفقه.
ومما تظهره المحاضر، أن بعض الأدوية استوردت من دول شرق آسيا حيث يتم تصنيع الأدوية المزوّرة أو المقلّدة أو حتى الأصلية منها، لكنها مرّت إلى بريطانيا حيث استُصدرت لها شهادات منشأ، لكن البعض يفسر بأن الشركة المنتجة للدواء هي في بريطانيا وتملك مصانع في دول شرق آسيا.



ادعاءات سياسية


بدأ التحقيق في هذ القضية قبل أشهر لكنه لم يتوسع بالشكل الكافي لتبيان الحقائق. وقد استبق النائب عاطف مجدلاني (الصورة) هذا الأمر للهجوم على حزب الله، مدعياً أن أصحاب المستودع من آل فنيش تلقوا تحذيراً بوجوب إخلاء البضاعة من مستودعاتهم، وهذا يناقض تماماً ما هو موثّق في محاضر وزارة الصحة. حتى أن النائب العام التمييزي حاتم ماضي، وفق ما يؤكد المطلعون، كان يظن أن الفضيحة حديثة العهد عندما رواها مجدلاني، وقد فوجئ بأن المباحث الجنائية كانت تحقق بهذا الملف وأنها استدعت أصحاب الشركات المذكورة والموظفين فيها ووثقت إفاداتهم منذ 13 تشرين الأول. وبحسب محاضر التفتيش الصيدلي في وزارة الصحة، سلّم الصيدلي حسين فنيش كل كميات الدواء التي تبيّن للوزارة أنها دخلت بوثائق مزوّرة، وهذا ينطبق على عطوي أيضاً. وقد أجرت الوزارة نحو 30 محضر ضبط لهذه الكميات، وهي تجري اليوم جردة من شأنها أن تقارن بين كميات الأدوية التي دخلت عبر المعابر الحدودية، وبين البضاعة الموجودة لدى الشركات، للكشف عن الكميات التي دخلت بأوراق مزوّرة ولا تزال في السوق.